بقلم: د. عدنان بوزان
يا امرأةً لم تخلق من طينٍ فحسب، بل من أسرارِ الغيمِ وندى الفجرِ، يا قصيدةً تمشي على قدمين وتخفي في نظراتها خرائطَ الكونِ، أكتبُ إليكِ لأنكِ التيهُ الذي أبحثُ فيه عن ذاتي، والمرآةُ التي تعيدُ لي وجهي حين يتكسّر في زحامِ الأيامِ، أكتبُ إليكِ بصوتٍ يئنّ أحياناً من ثقلِ الحبِّ، ويضحك أحياناً أخرى حين يذكرني أن للحبِّ أيضاً مذاقَ الوَجدِ الصافي؛ مضيتِ كما لو أن الفراقَ عندكِ طقسٌ من طقوسِ الخلودِ، كأنكِ تعلمينَ أن في كل غيابٍ ولادةً ثانيةً للوجعِ، تركتِ ما بيننا للقدرِ وللنارِ والاحتراقِ كما يتركُ الشاعرُ قصيدتَهُ للريحِ كي تمزّقَ أوراقَها، فصارتِ الذكرياتُ جمراتٍ في يدي؛ أتلمسها وأخشى أن تحرِقَ أناملي، فأنا الذي أؤمنُ أن الكلماتَ لا تحترقُ إذا وطئتها نوايا المحبةِ، جمعتُ رمادكِ في قلبي ونفختُ فيه حتى احتملَ أن يضيءَ دربي في الليالي الطويلةِ، فأضحى رمادكِ جمراً يوقِظُ حكاياتي حين تكسوها السكونُ، ويمدُّ لي يداً كمنارةٍ على ساحلِ غربتي.
أيتها المرأةُ، أنتِ الوطنُ الذي ننفى منه ونعودُ إليه في الأحلامِ، أنتِ البحرُ الذي نغرقُ فيه إذا ما انفتحت لنا شعَبُهُ من شجونٍ، أنتِ الجنةُ التي لا يدخلها المرءُ إلا بأبوابِ الحنينِ، وأنتِ أيضاً الجرحُ الذي يعيدُ للإنسانِ شعورهُ بأنه حيّ؛ أكبرُ من فكرةٍ، أعمقُ من جسدٍ، أصدقُ من لحظةٍ، أنتِ معجزةٌ تسوِّغُ لكلّ شيءٍ اسماً، تتسلحينَ به عند اللزومِ، وتفقدينه عند الحاجةِ، فكيف لا وأنتِ التي تجعلين الصمتَ يحتملُ معنى الكلمةَ وتمنحينَ الوجودَ لغةً ثانيةً حين تبتسمين؟ إنكِ لستِ مجردَ امرأةٍ في روايتي، بل أنتِ النصُّ كلهُ الذي يحيا حين تنطقينَ اسماً ويتردد له صدى في صدري، أنتِ حكايةٌ أعودُ إليها كلما تاهت بي الدروبُ، وأنتِ أيضاً الغيابُ الذي علمَني كيف أقرأ تفاصيلَ الوجودِ في ضوءِ ليلٍ بلا نجومٍ.
مضيتِ؛ فأيُّ امرأةٍ تستطيعُ أن تمضي كأنها لا تتركُ أثراً؟ لقد تركتِ آثارَ أشياءٍ صغيرةٍ لا يلحظها إلا من أحبّوا؛ تركتِ عبقَ قهوةٍ على شفاهِ فنجانٍ، وتركتِ طيفَ كلمةٍ لا تمحى من دفترِ الصباحِ، وتركتِ طيفَ ضحكةٍ في ركنٍ من البيتِ يصدأ بهِ الزمانُ ببطءٍ؛ ومضيتِ كذلك كأنكِ تتعلمينَ لغةَ الرحيلِ فتدرّبتِ عليها حتى أتقنتِها، لكنكِ لم تمضي من لغتي، لم تغادري أوراقي، ولم تخرجي من جلدي الذي تعود أن يكتبَكِ في كلّ سطرٍ كما تكتبُ النجومُ في دفترِ الليلِ. وإن كنتِ قد اخترتِ الفراقَ، فقد اخترتُ أنا أن أبقى على ضفافكِ؛ أنتظرُ عودتَكِ كما ينتظرُ البحرُ موجهُ، كما ينتظرُ الفجرُ خيوطَهُ الأولى، فلا عودةَ لحياتي بدونكِ، ولا حياةَ للقصيدةِ بلا صوتكِ حين تهمسُ باسمي.
أكتبُ إليكِ لأخبركِ أني رأيتكِ في كل الأشياءِ التي لم تذهبي عنها؛ رأيتكِ في ظل شجرةٍ تميلُ بحثاً عن ظلٍّ آخرَ، في كتابٍ طويته عند منتصفِ الليلِ، في نافذةٍ رطبةٍ بخريرِ مطرٍ لا يتعبُ من السقوطِ، رأيتكِ في مرآةِ قطرةٍ صغيرةٍ جلست على وردةٍ وارتعشت من الخوفِ أن تسقطَ، رأيتكِ في النساءِ اللواتي يمشينَ هادئاتٍ ويحملن في عيونِهنَّ تاريخَ المدنِ، ورأيتكِ في الرجالِ الذين يحبونَ بصمتٍ ويتعلمونَ الصبرَ منكِ دون أن يدروا؛ وكلما رأيتكِ، تذكرتُ أن للحبِّ أيضاً معادلاتٍ لا تحَلُّ إلا بعناقٍ صادقٍ، وبحكايةٍ تروى بصوتٍ منخفضٍ يكفيه أن يسمعه قلبٌ واحدٌ.
يا امرأةُ، إني لا أطالبكِ بعودتِكِ كما تطلبُ الأزهارُ ماءها، ولا أريدُ منكِ أن تكرري ما كان بيننا كما لو أنه عملٌ مسرحيٌّ يعادُ على مسرحٍ قديمٍ، كل ما أريدهُ هو أن تضيئي على نفسكِ كما أضئتِ لي يوماً، أن تعرفي أن في رحيلِكِ شدةً وفي بقائِكِ نعمةً، وأن للدنيا وجهينِ: وجهٌ يضحكُ حين تصبِحينَ، ووجهٌ يبكي حين تمضينَ، فاختاري لنفسِكِ إن شئتِ البقاءَ أم الرحيلَ، وإن اخترتِ الرحيلَ فاعلمي أنّ قلبي لن يتعلمَ نسيانَكِ بسهولةٍ، كما لا يتعلم البحرُ أن يصفو بعدما يلقى في قلبِه حجرٌ من شوقٍ.
إليكِ هذه الرسالةَ كما تختمُ أقدسُ الكتبِ، بخطٍّ من رمادٍ ونورٍ، لأن حباً كهذا لا يمحى، بل يتحولُ كل يومٍ إلى معنىٍ جديدٍ، وإلى سؤالٍ لا يملُّ من البحثِ عن جوابٍ؛ فعودي إن شئتِ، وابقِي إن شئتِ، فكلُّ اختيارٍ منكِ يحملُ في طياتهِ فصلاً من حياتي، وأنتِ وحدكِ القادرةُ على أن تكتبِي النهايةَ أو أن تتركِي فصلي الأبدي يسترسِلُ.