بقلم: د. عدنان بوزان
في لحظة تاريخية استثنائية، اهتزّ المشهد السوري من جذوره، معلناً نهاية نظامٍ استبدّ بالبلاد لعقود، وبداية مرحلة انتقالية محفوفة بالتحديات والمخاطر. لم يكن سقوط نظام الأسد مجرد حدث داخلي، بل نقطة تحوّل إقليمي ودولي، كسرت المحاور التقليدية، وأطلقت ديناميات جديدة في السياسة الدولية تجاه سوريا. ومع غياب روسيا وإيران من المشهد السوري، انفتح الباب أمام ترتيبات سياسية تقودها واشنطن من موقع "الراعي الجديد"، لا المحتلّ.
خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في هذه اللحظة المفصلية، لم يكن مجرد تصريح سياسي، بل وثيقة تعكس نوايا أمريكا لإعادة هندسة سوريا ما بعد الحرب، لا على شكل دولة منهكة وفاشلة، بل كدولة موحّدة، تعددية، منضبطة بميزان جديد من التفاهمات الدولية، والضغوط الاقتصادية، والتحولات المجتمعية.
في ما يلي تحليلٌ سياسي لهذا التحول، في ضوء الخطاب الأمريكي الجديد والواقع السوري المتبدّل.
1- أمريكا تعيد هندسة الملف السوري: من السقوط إلى إعادة البناء
في لحظةٍ تاريخية فارقة، سقط النظام الذي حكم سوريا طيلة خمسة عقود، مُعلناً نهاية مرحلة الاستبداد التقليدي، وبداية مرحلة انتقالية مضطربة ذات صبغة إسلاموية، يقودها أحمد الشرع، الرئيس الجديد الذي برز بوصفه ثمرة توافقات إقليمية ودولية عميقة. ولم يكن هذا التحول نتاجاً لحراك داخلي فحسب، بل تُوِّج بلقاء بالغ الدلالة جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأحمد الشرع في العاصمة السعودية الرياض، بوساطة مباشرة من المملكة، بهدف إعادة ترتيب أوراق الملف السوري والمنطقة بأسرها، وصياغة تحالفات جديدة وفق منظور أمريكي–إسرائيلي مستحدث.
في هذا اللقاء، بدا واضحاً أن واشنطن تسعى إلى استقطاب الشرع إلى معسكرها، وإعادة توجيه بوصلته الجيوسياسية بعيداً عن تركيا، التي تنظر إليها كعامل مربك في معادلات الشمال السوري، وبعيداً عن مشاريع الإسلام السياسي التي قد تُعيد إنتاج الفوضى بوجه ديني مستتر. أما الرد الأميركي–الإسرائيلي فجاء سريعاً وحاسماً، عبر سلسلة من الضربات الجوية المنسّقة استهدفت مواقع إيرانية وأذرعها العسكرية في الإقليم — من غزة إلى جنوب لبنان، مروراً بسوريا، ووصولاً إلى اليمن — في محاولة واضحة لتقليص النفوذ الإيراني وحرمانه من أوراق الضغط الإقليمية التي راكمها خلال سنوات الحرب.
هذا الترتيب الجديد مهّد الطريق لمرحلة انتقالية غير مسبوقة، ترافقت مع غياب دور نهائي لكلٍّ من إيران وروسيا من الساحة السورية، ما خلّف فراغاً جيوسياسياً دقيقاً، سرعان ما سارعت واشنطن إلى ملئه بخطاب استراتيجي صريح، عبّر عنه الرئيس ترامب بوثيقة سياسية متكاملة، تؤسّس لمرحلة ما بعد الأسد: مرحلة إعادة بناء سوريا وفق مقاربة أمريكية مشروطة، قائمة على أدوات ضغط مالية، وتحالفات إقليمية مدروسة بدقة.
2- لا انتصار عسكري... بل تسوية جيوسياسية عبر إخراج إجباري للقدامى
سقوط النظام لم يكن نتاج ثورة شعبية خالصة، أو انقلاب داخلي، أو هزيمة عسكرية فاضحة، بل ثمرة تسوية دولية معقّدة جرى التفاوض عليها في الكواليس، حيث تلاقت فيها مصالح واشنطن مع عدد من العواصم الإقليمية الكبرى، بالتوازي مع تغيّر المزاج السياسي في موسكو وطهران، اللتين وجدتا نفسيهما في مستنقع استنزاف طويل بلا عائد استراتيجي يُذكر.
لذا، فإن خروج روسيا وإيران من سوريا لم يكن انسحاباً تكتيكياً بقدر ما كان انكفاء اضطرارياً لإفساح المجال أمام ترتيبات جديدة تتلاءم مع موازين القوى بعد الحرب. الخطاب الأمريكي، حين يُشدد على وحدة سوريا واستقرارها، لا يدافع عن سيادة كلاسيكية، بل يسعى إلى إعادة إنتاج الدولة وفق تصوّر أمريكي يتسم بالحداثة المؤسسية والانضباط السياسي.
3- خطاب ترامب: وصاية ناعمة بصيغة إصلاحية
لم يأتِ خطاب ترامب، ولا قراراته بتخفيف العقوبات، كردّة فعل عاطفية على التغيير، بل كمبادرة أمريكية لملء الفراغ السياسي والاستراتيجي الذي خلّفه سقوط النظام وخروج الحلفاء. تدرك واشنطن أن أي فراغ في سوريا سيكون فرصة مفتوحة لقوى منافسة، سواء الصين أو التنظيمات المتطرفة أو حتى أطراف إقليمية كتركيا. لذلك حمل الخطاب رسالتين واضحتين:
- أن الملف السوري ما يزال تحت الرعاية الأمريكية.
- وأن واشنطن لن تسمح بظهور نظام استبدادي جديد، لكنها أيضاً لن تتساهل مع الفوضى أو مشاريع التقسيم.
هكذا، يبدو الخطاب الأمريكي كصيغة وصاية سياسية ناعمة، تُقدّم الهيمنة في هيئة رعاية، وتفرض خارطة طريق مشروطة، تتضمن خطوطاً حمراء: لا تطرف، لا تقسيم، لا فساد، ولا تهميش للأقليات.
4- أحمد الشرع: رجل المرحلة أم واجهة تسوية؟
بتولي أحمد الشرع رئاسة المرحلة الانتقالية، بدا واضحاً أن واشنطن وافقت على شخصية تملك الحد الأدنى من القبول الدولي، دون أن تثير حفيظة السوريين أو تستفز الحلفاء. الشرع ليس ثورياً متطرفاً، لكنه أيضاً ليس من رموز النظام السابق المحروقين سياسياً. في الرؤية الأمريكية، هو "رجل التوازن": قادر على لعب دور الوسيط بين أطراف الداخل، وشريك يمكن ضبط إيقاعه عبر الحوافز والضغوط.
ومع ذلك، فإن واشنطن لا تترك الشرع يعمل بمطلق الحرية، بل تربط استمرار دعمه بسلسلة من الالتزامات، أبرزها: إطلاق حوار وطني شامل، الاعتراف بالكورد كشركاء سياسيين، إصلاح المؤسسات الأمنية، ومحاربة الفساد كبوابة للاستثمار والتنمية.
5- الكورد: من أدوات عسكرية إلى شركاء في الحكم
أحد التحولات اللافتة في الخطاب الأمريكي هو الارتقاء بمكانة الكورد من شركاء عسكريين في محاربة الإرهاب إلى شركاء سياسيين في بناء الدولة. عندما طالب ترامب دمشق الجديدة بتحمّل مسؤولية مراكز احتجاز داعش، كان يقصد أكثر من البُعد الأمني؛ كان يُمهّد لدمج الكورد ومؤسساتهم في جسد الدولة السورية.
وبهذا، فإن المشروع الكوردي، الذي ظلّ معلقاً بين الرفض الدمشقي والتجاهل الدولي، أصبح اليوم جزءاً من الرؤية الأمريكية للحل، مما يعني أن الاعتراف السياسي والدستوري بالكورد لم يعد مجرّد ورقة ضغط، بل شرط من شروط الاستقرار البنيوي لسوريا المستقبل.
6- تركيا: الحليف المُربك في الزاوية الضيقة
من بين جميع الأطراف، ربما كانت أنقرة الأكثر توتراً تجاه هذا التحول. فخروج إيران وروسيا، وسقوط النظام، سحبا من يد تركيا المبررات الأمنية لتدخلها في الشمال السوري. وواشنطن، التي لطالما تغاضت عن السلوك التركي تحت شعار "الشراكة في الناتو"، أصبحت اليوم أكثر صرامة في خطاباتها، وأوضح في تحذيراتها:
"لا نفوذ على الأرض. لا ملاذات آمنة. لا حجج أمنية واهية."
الرسالة هنا مزدوجة: أولاً، على تركيا أن تتحول من فاعل ميداني إلى شريك دبلوماسي؛ وثانياً، أن ترفع يدها عن الملف الكوردي السوري، وتقبل بتوازنات جديدة تُشرف عليها واشنطن.
7- العقوبات: من أداة إسقاط إلى أداة توجيه
للمرة الأولى، تتخلّى أمريكا عن سلوكها العقابي المحض، وتتجه نحو استخدام العقوبات كأداة ضغط إيجابي مشروطة بالإصلاح. فرفع جزء من العقوبات على سوريا لا يعني إطلاق العنان لحكومة أحمد الشرع، بل يُستخدم كأداة تحفيز، مرتبطة بالشفافية، والاستقرار، والانفتاح السياسي.
وهكذا، تُظهر واشنطن إدراكاً جديداً بأن الحل في سوريا لا يمر عبر البندقية وحدها، بل عبر الاقتصاد والتنمية ومكافحة الفساد. السوريون بحاجة إلى رغيف خبز قبل خطاب سياسي، وإلى عدالة محلية قبل صندوق اقتراع.
الخلاصة: سوريا ما بعد الأسد... في مرآة السياسة الأمريكية
إن ما يجري اليوم ليس مجرد انتقال للسلطة، بل تحوّل عميق في بنية الدولة السورية. للمرة الأولى منذ خمسة عقود، تبدو سوريا أمام فرصة لإعادة تعريف ذاتها: كدولة متعددة لا تخضع للاحتكار، دولة قانون لا استخبارات، وشراكة لا وصاية.
لكن هذه الفرصة مشروطة: لا تُمنَح، بل تُنتزع. وترامب، في خطابه الأخير، لم يُقدّم وعوداً مجانية، بل رسم معالم خارطة مشروطة:
- دولة موحّدة لكنها غير مركزية.
- تعددية تحت سقف السيادة.
- علمانية واقعية تحترم كلّ المكونات.
- اقتصاد منتج لا زبائني.
- شراكات داخلية لا احتلالات خارجية.
واشنطن لا تريد عودة الأسد، لكنها لا تريد أيضاً قيام دويلات مسلّحة أو مشاريع انفصال. إنها تراهن على "الدولة الذكية"، التي تُدار بتحالفات داخلية متوازنة، ورقابة دولية غير مُباشرة.
الكرة الآن في ملعب السوريين. فهل يستثمرون هذا التحول لصناعة وطنٍ جديد، أم يُعيدون إنتاج نسخة ناعمة من الاستبداد القديم؟
الزمن وحده سيجيب، لكن ترامب قالها بصراحة:
لن نسمح بسقوط سوريا من جديد، لا من الخارج... ولا من الداخل.