بقلم: د. عدنان بوزان
يشكل المشهد السياسي الكوردي في سوريا اليوم عقدة معقدة في نسيج الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من عقد. وهذه العقدة لا تنبع فقط من الخلافات بين الأحزاب الكوردية ذاتها، بل تعبر أيضاً عن تداخل مصالح إقليمية ودولية تتصارع في منطقة شديدة الحساسية من الناحية الجيوسياسية، الأمر الذي يجعل من القضية الكوردية في سوريا محوراً يكشف عمق التشابك بين الديناميات المحلية والإقليمية، وتداعياتها على مستقبل البلاد بأكملها.
في هذا السياق، من الضروري التوقف عند الموقف الرسمي للولايات المتحدة، الذي عبّر عنه المبعوث الخاص توماس باراك، باعتباره يمثل خطاباً دبلوماسياً ذا وزن دولي رفيع. حين يؤكد على «نظام واحد، وجيش واحد، وإدارة واحدة، وقرار واحد»، فهو لا يتحدث عن رأي شخصي أو تفصيل بيروقراطي، بل يضع حجر الأساس لرؤية استراتيجية أمريكية تهدف إلى الحفاظ على وحدة الكيان السوري، وتجنب انزلاقه إلى مشروع تفتيتي قد يفتح الباب أمام صراعات لا تنتهي. هذا التصور يعكس قلقاً أمريكياً مشروعاً من احتمالات تفكك الدولة، أو تحولها إلى كيان هش تتنازع فيه الكيانات المحلية والميليشيات والسلطات الموازية، بما يشكل تهديداً طويل الأمد للاستقرار الإقليمي برمته.
غير أن هذا الموقف يصطدم بتطلعات بعض القوى الكوردية التي طالما رفعت شعار الفيدرالية أو الحكم الذاتي الموسع، معتبرةً أنهما المدخل الطبيعي لتحقيق مطالب الشعب الكوردي في سوريا. وبينما يبدو الخطاب الأمريكي واضحاً في رفضه لمشاريع الانفصال أو التقسيم، إلا أن بعض الأطراف الكوردية تجد نفسها في موقع تصادمي مع هذا التوجه، لأنها تعوّل في مشروعها السياسي على دعمٍ أمريكي مباشر أو غير مباشر. لكن واشنطن، بصفتها القوة الدولية الأهم في المعادلة السورية، لا تستطيع — وفقاً لتوازنات علاقاتها مع تركيا والفاعلين الإقليميين — أن تدعم مشروعاً كوردياً يتجاوز السقف المسموح به سياسياً، خاصة في ظل حساسية الملف الكوردي بالنسبة لأنقرة.
في المقابل، يعاني الداخل الكوردي السوري من انقسام حاد وتشرذم سياسي أضعف موقعه في أي مفاوضات محتملة مع السلطة الانتقالية في سوريا أو مع أي جهة دولية فاعلة. فالأحزاب الكوردية الكبرى، مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو حزب العمال الكردستاني (ب ك ك)، لا تحظى بقبول وطني شامل، كما لا تعتبر ممثِّلة شرعية لغالبية الكورد السوريين، وفق آراء عدد كبير من الوطنيين والمثقفين الكورد. بل يرى كثيرون أن هذه الأحزاب باتت مرتبطة بأجندات إقليمية ودولية، وأنها عاجزة عن صياغة مشروع سياسي جامع وفاعل يمكن أن يتفاوض باسم الشعب الكوردي من موقع قوة واستقلالية.
وهنا تبرز أهمية الدعوة إلى عقد مؤتمر كوردي سوري جامع، يضم مختلف القوى السياسية والمدنية، لصياغة مشروع سياسي موحد يعكس إرادة الشارع الكوردي السوري، ويؤسس لتمثيل شرعي في أي مفاوضات مستقبلية. فالتشتت الداخلي لا يخدم سوى الجهات التي تسعى إلى تهميش المطالب الكوردية أو توظيفها في مشاريعها الخاصة، سواء كانت السلطة الانتقالية، أو القوى الإقليمية، أو حتى بعض اللاعبين الدوليين.
في المدى الأوسع، يجب ألا تُقرأ هذه التطورات بمعزل عن السياق الجيوسياسي الشامل، حيث تسعى كل من روسيا وإيران والصين إلى تثبيت نفوذها في سوريا من خلال دعم السلطة الانتقالية وإعادة تأهيلها دولياً، بما يشبه استعادة سابقة للمنظومة السلطوية القديمة. ففشل المشروع الأمريكي في سوريا لا يعني فقط خسارة الحلفاء المحليين، بل يمنح المشروع الإيراني الروسي المضاد فرصةً للتمدد، ويفتح المجال أمام عودة الحروب بالوكالة، وتصاعد الهجمات بالطائرات المسيّرة والصواريخ، وربما موجات نزوح جديدة من المناطق الكوردية التي ستكون عرضة مباشرة للتصعيد والضغط الميداني.
وفي ظل هذا المشهد، يبقى السؤال المفصلي: هل يمكن للمشروع الكوردي أن يحقق أهدافه في غياب اعتراف بواقع السلطة الانتقالية ومركزية القرار السياسي والعسكري في البلاد؟ وهل تستطيع القوى الكوردية الاستمرار في رفع شعارات الفيدرالية دون صياغة مشروع تفاوضي واقعي، يتبنى نموذجاً لا مركزياً واسعاً ضمن الدولة السورية الموحدة؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تفرض ضرورة مراجعة الخطاب السياسي الكوردي، والانطلاق من الواقعية السياسية لا من التمنيات، لأن المسافة بين الحلم والإمكان لا تُختصر بالشعارات، بل تُبنى على قوة التمثيل ووضوح الرؤية.
رفض السلطة الانتقالية لأي مشروع فيدرالي أو حكم ذاتي موسّع لا ينبع فقط من مركزية سياسية متجذّرة، بل يعكس طبيعة توازنات إقليمية ودولية لا تسمح بتغيير شكل الدولة السورية خارج سياق تسوية وطنية شاملة. وبالتالي، فإن أي مشروع كوردي فعّال لا بد أن يُبنى على أسس تفاوضية توافقية، تُحقق الحد الأدنى من مطالب الكورد في إطار وحدة سوريا، وتحمي وجودهم السياسي واللغوي والثقافي ضمن نظام لا مركزي قوي، لا يخلّ بوحدة القرار والسيادة الوطنية.
وفي المحصلة، فإن الحديث عن توماس باراك ليس تفصيلاً هامشياً، بل هو نافذة تكشف الموقف الأمريكي في لحظته الحاسمة، بين حسابات المصالح، وإعادة رسم خرائط النفوذ. وهو تذكير واقعي بأن الدعم الدولي لا يُمنح بلا شروط، وأن القوة السياسية تُبنى أولاً من الداخل، عبر وحدة الصف، ووضوح المشروع، واستقلالية القرار.
الأزمة الكوردية في سوريا ليست أزمة فئة داخلية فحسب، بل هي مرآة تعكس الأزمة السورية العامة، بكل ما فيها من تفتت سياسي، وانعدام تمثيل، وصراع مشاريع. والحل لا يكون إلا من خلال مشروع وطني كوردي شامل، يُدرك تعقيدات المشهد، ويستثمر كل الفرص المتاحة لخلق شراكة تفاوضية قائمة على الاعتراف، والاحترام المتبادل، والتكامل في بناء سوريا المستقبل، لا على نزاعات الهوية أو استثمار الأزمات.