تحليل سياسي: الصراع الإسرائيلي-الإيراني ومسرحية الحرب الحقيقية خلف الأضواء
- Super User
- التحاليل السياسية
- الزيارات: 1233
بقلم: د. عدنان بوزان
مقدمة:
يُعد الصراع بين إسرائيل وإيران من أعقد وأشد النزاعات السياسية والأمنية في الشرق الأوسط الحديث، حيث تتشابك فيه الأبعاد الإقليمية والدولية، وتتقاطع فيه المصالح المتضاربة التي تؤثر بشكل مباشر على استقرار المنطقة بأسرها. هذا الصراع ليس مجرد تنازع بين دولتين على مستوى الجغرافيا السياسية، بل هو انعكاس لصراعات أيديولوجية ودينية واقتصادية عميقة، تتقاطع فيها أهداف متعددة تتجاوز حدود الشرق الأوسط إلى ساحات النفوذ العالمية.
على مدى عقود، شهدت العلاقات بين إيران وإسرائيل تصعيدات متقطعة ترافقت مع تهديدات متبادلة، وحروب بالوكالة، وعمليات سرية، وأحداث دامية، ما جعل من هذا الصراع محوراً رئيسياً في السياسة الدولية، ولا سيما في ظل النزاع حول البرنامج النووي الإيراني. فقد بات الملف النووي نقطة توتر مركزية، إذ ترى إسرائيل والولايات المتحدة في امتلاك إيران لقدرات نووية تهديداً وجودياً يُحتّم التصدي له قبل أن يتحول إلى واقع لا رجعة فيه، بينما تعتبر طهران برنامجها النووي حقاً سيادياً للتنمية والردع في وجه ما تصفه بالعداء الخارجي.
لكن المشهد الميداني والحراك السياسي غالباً ما يخفي أكثر مما يُعلن، فبين التصريحات الرسمية التي تعلن ضربات جوية دقيقة وأهدافاً استراتيجية تم تحييدها، وبين الواقع الذي لا يعكس بالضرورة تدميراً كاملاً لقدرات إيران العسكرية والنووية، ينشأ سؤال جوهري حول مدى صحة هذه العمليات وفاعليتها. يتطلب ذلك تفكيكاً وتحليلاً دقيقاً يتجاوز السطح الإعلامي الذي يغلب عليه الخطاب السياسي والدبلوماسي، إلى قراءة معمقة تحاول الكشف عن مصالح الأطراف الحقيقية، والغايات الخفية، والديناميكيات المعقدة التي تحكم هذا الصراع.
في ضوء هذه المعطيات، يصبح من الضروري دراسة الصراع الإسرائيلي-الإيراني من منظور شامل يجمع بين التحليل السياسي والأمني والاقتصادي، مع الأخذ في الاعتبار التفاعلات الإقليمية والدولية التي تتداخل في تشكيل مسار الأحداث، وتحدد مآلات هذا النزاع الذي يؤثر على مستقبل الشرق الأوسط برمته.
- خلفية الصراع وأطرافه:
يُعتبر الصراع بين إسرائيل وإيران من أكثر النزاعات تعقيداً في الشرق الأوسط، إذ تمتد جذوره إلى أكثر من أربعة عقود من التوترات السياسية والأيديولوجية التي تشكلت منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. تلك الثورة التي أسقطت النظام الملكي المدعوم من الغرب وأعلنت إيران جمهوريةً إسلاميةً تقوم على أساس ولاية الفقيه، جعلت من إسرائيل عدواً رئيسياً، ليس فقط بسبب المواقف السياسية المتشددة ضد الدولة العبرية، وإنما أيضاً لأن إيران اتخذت من دعم الجماعات المسلحة المناوئة لإسرائيل - كحزب الله في لبنان وحماس في غزة - أحد ركائز سياستها الإقليمية.
تقوم هذه الديناميكية على أساس أيديولوجي، حيث تعتبر إيران نفسها قوة مقاومة ضد ما تصفه بالهيمنة الأمريكية والصهيونية على المنطقة، في حين تفسر إسرائيل تصرفات طهران على أنها تهديد وجودي مباشر يستهدف أمنها القومي ويهدد استقرار المنطقة برمتها. وهنا تبدأ الطبقات العميقة للصراع، التي ليست مجرد صراع على الحدود أو النفوذ، بل صراع قيم وأيديولوجيات تناقض بعضها البعض في جوهرها.
إلى جانب هذا البعد الأيديولوجي، يرتبط الصراع كذلك بخلفيات جيوسياسية معقدة، حيث تمثل إيران قوة إقليمية طامحة لتمديد نفوذها عبر تحالفات مع فصائل مسلحة وأحزاب سياسية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مستغلة حالة الضعف والفراغ الأمني في هذه الدول، ما أثار مخاوف إسرائيل وحلفاءها من تنامي تهديدات متعددة الأوجه.
على الصعيد الدولي، أصبح البرنامج النووي الإيراني نقطة محورية في النزاع، إذ يخشى المجتمع الدولي - خاصة إسرائيل والولايات المتحدة - أن يمنح البرنامج إيران القدرة على تطوير سلاح نووي، مما قد يغير موازين القوى في الشرق الأوسط ويفتح باب سباق تسلح نووي خطير. لذلك، تبنت إسرائيل، بدعم أمريكي كامل، استراتيجية الضربات الاستباقية والهجمات السيبرانية (كالهجوم على برنامج نطنز النووي)، لإضعاف وتقييد قدرات إيران النووية والعسكرية قبل أن تصل إلى مرحلة تمكّنها من امتلاك السلاح النووي الفعلي.
في المقابل، تحرص إيران على مواصلة برنامجها النووي، مدعيةً أنه لأغراض سلمية وبناء قدرات دائمة للتنمية والردع، وتتبع سياسة الحذر في تعاطيها مع الضغوط الدولية، مستفيدة من علاقاتها المتشابكة في المنطقة وتحالفاتها مع قوى إقليمية مثل روسيا والصين، إضافة إلى أدوار محورية في المنظمات الدولية، ما يمنحها هامش مناورة نسبياً داخل المعادلات الدولية.
ولا يمكن فهم هذا الصراع بمعزل عن دور القوى الإقليمية الأخرى التي تلعب أدواراً متباينة لكنها متشابكة في تشكيل الديناميكية السياسية للمنطقة. فالمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، ترى في التوسع الإيراني تهديداً مباشراً لأمنها واستقرارها، وتسعى لتعزيز تحالفات إقليمية ودولية مضادة لطهران، بما في ذلك دعمها للإجراءات الإسرائيلية الأمريكية الرامية إلى احتواء النفوذ الإيراني. أما تركيا، فبينما تحاول موازنة علاقاتها مع كلا الطرفين، فإنها تلعب دوراً استراتيجياً في الملف السوري، وتسعى لاستثمار الصراعات الإقليمية لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي.
على الصعيد العالمي، لا يقتصر تأثير الصراع على حدود الشرق الأوسط، بل يمتد ليشكل بؤرة توتر في العلاقات الدولية، حيث تتشابك فيه مصالح القوى العظمى كروسيا والصين والولايات المتحدة. إن استمرار هذا الصراع يهدد الأمن العالمي من خلال زعزعة استقرار خطوط إمداد الطاقة، وتعطيل التجارة الدولية، وزيادة احتمالات الصدام العسكري المباشر، ما يجعل من المنطقة نقطة اشتعال دائمة قد تؤدي إلى أزمات عالمية.
إن فهم هذه الخلفية المركبة ضروري لفك شيفرة التحركات والتصعيدات المتكررة التي تشهدها المنطقة، والتي لا تنحصر في إطار المواجهة العسكرية المباشرة، بل تمتد إلى مجالات الدبلوماسية والاقتصاد والإعلام والسياسة الدولية، لتشكل بذلك صراعاً متعدد الأبعاد يُعاد تشكيله وفق موازين القوى والتحالفات المستجدة.
- الوقائع الميدانية: ضربات جوية وادعاءات متضاربة
شهدت الأيام الأخيرة تصعيداً عسكرياً واضحاً على الصعيد الميداني، حيث نفّذت الطائرات الحربية الأمريكية والإسرائيلية سلسلة من الضربات الجوية المركزة التي استهدفت مواقع استراتيجية في إيران، أبرزها منشآت في أصفهان، نطنز، وفوردو. جاءت هذه العمليات ضمن إطار استراتيجية تهدف إلى تقويض البرنامج النووي الإيراني، الذي تعتبره تل أبيب وواشنطن تهديداً وجودياً لأمنهما الإقليمي والدولي.
وأعلنت المصادر الرسمية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل أن هذه الغارات أسفرت عن تدمير الترسانة النووية الإيرانية، مما عزز الصورة الإعلامية التي تصوّر الضربات كخطوة حاسمة في مسار مواجهة التهديد النووي الإيراني. إلا أن الوقائع على الأرض تطرح تساؤلات جدية حول مدى صحة هذه الادعاءات، خاصة بعد غياب أي دلائل مادية تشير إلى حدوث تسرب لليورانيوم المخصّب في المواقع المستهدفة. هذا الأمر يثير علامات استفهام بشأن قدرة إيران على حماية مخزونها النووي من الضربات الجوية، ويعكس بوضوح وجود شبكة تحصينات متطورة، ونظام إدارة محكم يتيح لها نقل المواد الحساسة إلى مواقع بديلة آمنة في وقت قياسي.
إن قدرة النظام الإيراني على الاستجابة بهذه المرونة تكشف عن مستوى متقدم من التنسيق الاستخباراتي والتقني، يشمل تحصين المنشآت النووية وإخفاء قدرات حيوية، فضلاً عن استخدام تكنولوجيا متطورة في مجال الحماية والتشويش على وسائل الاستطلاع والمراقبة. كما يشير ذلك إلى احتمال وجود قواعد سرية ومراكز عمليات مخفية بعيدة عن مرمى الاستهداف، مما يصعّب على الجهات المعتدية تحقيق أضرار استراتيجية دائمة.
علاوة على ذلك، تحمل هذه الضربات رسائل سياسية وعسكرية مزدوجة، فهي تؤكد استمرار القدرة القتالية الإسرائيلية والأمريكية على شن هجمات دقيقة داخل الأراضي الإيرانية، في محاولة لإظهار الجدية والردع، لكنها في الوقت ذاته قد تفتقر إلى القدرة الحاسمة على القضاء الكامل على البرنامج النووي الإيراني أو تغيير مسار السياسة الإيرانية بشكل جذري. هذا التناقض بين الدعاية الرسمية والوقائع الفعلية يعكس الأبعاد المعقدة للحرب غير المباشرة التي تخوضها الأطراف، حيث تتحول الضربات إلى رسائل رمزية ضمن لعبة التوازنات الإقليمية والدولية.
من جهة أخرى، يمكن قراءة هذه العمليات في إطار مسرحية سياسية متقنة الإخراج، يتشارك فيها أكثر من طرف بهدف إعادة فرض واقع جديد في المنطقة يخدم مصالحهم الاستراتيجية، دون الدخول في حرب شاملة قد تحمل تداعيات كارثية. فبينما يبدو أن هناك إلحاقاً بأضرار مادية بالنظام الإيراني، إلا أن هذه الأضرار لا ترقى إلى مستوى الإضعاف الجوهري أو الانهيار السياسي، مما يوحي بوجود تفاهمات ضمنية أو علنية بين القوى الكبرى للحفاظ على استقرار نسبي يمنع انفجار الصراع إلى أبعاد أكبر.
في الختام، تبقى الضربات الجوية التي استهدفت المواقع النووية الإيرانية، رغم دلالاتها العسكرية والسياسية، غير كافية لتحديد مصير البرنامج النووي أو حتى مآل الصراع بأكمله. إذ يعكس الواقع الميداني قدرة النظام الإيراني على الصمود وتجاوز هذه المحاولات، بينما يوضح تداخل المصالح الإقليمية والدولية أن ما يشهده المشهد ليس سوى فصل من فصول لعبة معقدة، تتداخل فيها المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية لأطراف عديدة، حيث يبقى السؤال الأساسي قائماً: إلى أين سيقود هذا الصراع المتشابك المنطقة والعالم؟
- السيناريو السياسي: مسرحية متقنة الإخراج
عند تفكيك المشهد العام للصراع بين إسرائيل وإيران، يتّضح أن ما يُقدَّم على السطح كصراع عسكري مباشر، ليس في جوهره سوى فصل جديد من مسرحية سياسية-استراتيجية مُتقنة الإخراج، تشارك فيها أطراف متعددة، إقليمية ودولية، بدرجات متفاوتة من التنسيق أو التواطؤ الضمني. فالضربات المتبادلة، والتهديدات النووية، والتصريحات السياسية الصاخبة، تبدو وكأنها عناصر محسوبة ضمن سيناريو مُعدّ سلفاً، أكثر من كونها خطوات حقيقية لإسقاط نظام أو إحداث تغيير جذري في ميزان القوى.
تشير معظم المعطيات الميدانية والسياسية إلى أن الهدف الحقيقي ليس القضاء على النظام الإيراني، بل ضبطه وإعادة توجيه سلوكه ضمن توازنات جديدة تضمن مصالح القوى الكبرى. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، لا تسعى إلى إسقاط النظام بقدر ما تسعى إلى احتوائه، لأنه يؤدي وظيفة مزدوجة: يُستخدم كأداة ضغط وابتزاز لدول الخليج، ما يضمن استمرار تبعيتها الأمنية والعسكرية، ويُستخدم كذلك كحاجز جيوسياسي يحدّ من تمدد قوى أخرى كروسيا أو الصين في عمق الشرق الأوسط.
إن ما نشهده ليس سوى استعراض منضبط للقوة، يهدف إلى تحجيم إيران لا اجتثاثها، وترويضها لا إسقاطها. وهذا ما يُفسّر دقة الضربات العسكرية وانتقائيتها، وحرصها على تجنّب استهداف مراكز القيادة العليا أو منشآت حيوية قد يؤدي تدميرها إلى انهيار شامل للنظام. بل على العكس، فإن طهران – رغم الأضرار – تخرج من كل جولة أكثر تشدداً في تثبيت سلطتها، لا سيما عبر قمع القوميات غير الفارسية كالكورد والعرب والأذريين، وتعزيز القبضة الأمنية الداخلية، تحت ذريعة "مواجهة العدوان الخارجي".
الوساطة القطرية التي أوقفت التصعيد الأخير بين تل أبيب وطهران لم تكن حدثاً عرضياً، بل إشارة إضافية على وجود تفاهمات ضمنية، أو على الأقل توافقات مؤقتة، بين أطراف الصراع التقليديين. فهي تؤكد أن القوى الفاعلة ليست بصدد إشعال حرب إقليمية شاملة قد تخرج عن السيطرة، بل تعمل على إعادة ترتيب أوراق النفوذ بطريقة مدروسة، تضمن مصالحها الاستراتيجية وتُبقي المنطقة ضمن هامشٍ محسوب من التوتر.
لقد أصبح هذا النمط من "إدارة الأزمات" سمة بارزة في العلاقات الدولية، خصوصاً بعد الحرب الباردة، حيث لم تعد الغاية هي حلّ النزاعات جذرياً، بل إبقاؤها مفتوحة ما دامت تُبرّر التدخلات وتُبرر النفوذ وتُنتج الأرباح. والصراع الإيراني-الإسرائيلي لا يخرج عن هذا السياق، بل يمثّل نموذجاً لما يُسمى "الحرب المنضبطة" أو "الصراع المتحكَّم به"، حيث يتم تصعيد التوتر كلما دعت الحاجة، دون السماح بانفلاته نحو مواجهة شاملة.
من هنا، فإن الحديث عن "مسرحية سياسية" ليس مجازاً خطابياً، بل توصيف دقيق لواقع يُدار من وراء الكواليس، تُوزَّع فيه الأدوار بعناية: إسرائيل تُقدِّم نفسها كدرع للغرب في وجه "الخطر الإيراني"، وإيران تطرح نفسها كقوة مقاومة لمشاريع "الصهيونية والإمبريالية"، بينما تتولى واشنطن ضبط الإيقاع، وتدوير التوازنات، لضمان الهيمنة دون الدخول في مواجهات مباشرة مكلفة.
غير أن ما تُخفيه هذه المسرحية أعظم وأخطر: فالشعوب، وحدها، هي التي تدفع الثمن. المواطن الإيراني، والإسرائيلي، والعربي، يعيش جميعهم تحت وطأة أنظمة تستغل الصراع لتبرير القمع، وتشرعن عسكرة الدولة، وتصادر الحريات باسم "الأمن القومي" أو "المواجهة المصيرية"، في حين تبقى الموارد والثروات رهينة مشاريع لا تخدم إلا مصالح النخب السياسية والعسكرية، والقوى الخارجية.
إن قراءة هذا السيناريو السياسي لا تكتمل دون التوقف عند الأهداف غير المُعلنة التي تحرّك هذه المعادلات، وأبرزها: السيطرة على مصادر الطاقة، ضمان أمن الممرات البحرية، الحفاظ على تفوق عسكري-تقني دائم في المنطقة، ومنع نشوء قوى مستقلة أو بدائل سياسية واقتصادية قد تُربك النظام العالمي القائم على الهيمنة الغربية.
لذلك، فإن هذا الصراع لا يُقاس بنتائج الضربات أو بسقف التصريحات، بل ينبغي فهمه ضمن مشهد استراتيجي أوسع، تتحرك فيه القوى الكبرى وفق أجندات معقّدة، تدمج بين الردع العسكري، والتحكم السياسي، والاستغلال الاقتصادي، في لعبة محكمة الملامح... مسرحية قد تكون متقنة في هندستها، لكنها كارثية في مآلاتها الإنسانية.
- مقاربة تاريخية: تشابه مع سيناريو العراق 1990–2003
عند قراءة المشهد الإيراني-الإسرائيلي في ضوء تجارب تاريخية سابقة، يظهر تشابه واضح مع السيناريو العراقي الذي بدأ عام 1990، وتُوّج عام 2003 بسقوط النظام. فكما غزا العراق الكويت في آب/أغسطس 1990 متحدياً الإرادة الدولية، وواجه لاحقاً حملة عسكرية بقيادة تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة تحت شعار "تحرير الكويت"، نجد أن النظام الإيراني اليوم يتّبع سياسات توسعية في المنطقة، ويخوض معارك غير مباشرة في أكثر من ساحة، بينما يواجه تهديدات وتحالفات إقليمية ودولية مشابهة.
في الحالة العراقية، لم يكن الهدف المباشر إسقاط النظام آنذاك، بل جرى احتواء صدام حسين وإضعاف سلطته من خلال ضربات جوية مكثفة وعقوبات اقتصادية طويلة الأمد، تركت البلاد في حالة إنهاك مزمن دون أن تؤدي مباشرة إلى سقوط النظام. بل على العكس، تمكن صدام بعد حرب الخليج الثانية (1991) من إعادة ترتيب أوراقه الداخلية، وتعزيز سلطته بالحديد والنار، لا سيما من خلال سحق الانتفاضات في الجنوب والشمال، وتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية، ما مكّنه من البقاء في الحكم لأكثر من عقد إضافي رغم الحصار الخانق، إلى أن جاء قرار الإطاحة به في عام 2003 من خلال عملية عسكرية شاملة، بذريعة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وهي الذريعة التي ثبت لاحقاً أنها كانت مبنية على معلومات مضللة أو مفبركة.
المفارقة أن السيناريو الإيراني الحالي يسير على وتيرة مشابهة. فإيران، على غرار العراق في التسعينيات، تتعرض لضربات عسكرية "نوعية"، وضغوط اقتصادية خانقة، وتضييق دبلوماسي وإعلامي متواصل، لكنها لا تواجه حتى الآن عملية إسقاط شاملة للنظام. بل على العكس، تُمنح فرصاً متكررة لإعادة التموقع الإقليمي، بل وحتى لتوسيع نفوذها في ملفات مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن. هذا النمط من "الاحتواء دون إسقاط" يشير إلى نية غير معلنة لدى القوى الكبرى بالإبقاء على النظام الإيراني قوياً بما يكفي لضبط الإيقاع الإقليمي، وضعيفاً بما يكفي لعدم التمرد الكامل أو تشكيل تهديد مباشر للمصالح الغربية.
الوساطات السياسية، كالدور القطري الأخير في تهدئة التصعيد بين طهران وتل أبيب، تُذكّر بمحاولات الأمم المتحدة والجامعة العربية بين عامَي 1990 و2003 لإيجاد تسويات جزئية مع العراق، فيما تُبقي واشنطن، آنذاك والآن، يدها على الزناد بانتظار اللحظة المناسبة للحسم. وفي كلتا الحالتين، يُترك النظام المستهدف ليستنزف داخلياً، ثم يُضرب في التوقيت الذي تراه القوى الكبرى مناسباً، سياسياً وعسكرياً، ويضمن أقل قدر من الفوضى.
أما خطاب "العدو الخارجي"، الذي تستخدمه طهران اليوم لتبرير القمع الداخلي، وتعزيز السلطة الأمنية، فلا يختلف كثيراً عن خطاب صدام في التسعينيات، الذي استثمر الحصار والعقوبات لحشد الداخل حول السلطة، وقمع المعارضة السياسية، وسحق الأقليات، في سياق "مقاومة العدوان الخارجي".
هذه المقاربة ليست مجرد مقارنة في الشكل، بل تشابه في المنهج والاستراتيجية. فأسلوب إدارة الأزمات من قبل الولايات المتحدة، لا سيما في الشرق الأوسط، يعتمد غالباً على إبقاء بؤر التوتر مفتوحة وقابلة للضبط، دون السعي لحسم سريع ونهائي، ما لم تتوفر شروط الانهيار الداخلي والتوافق الدولي على البديل. والدرس العراقي أوضح مثال على أن الأنظمة لا تسقط بالحرب وحدها، بل بالإنهاك التدريجي، والتفكيك الممنهج، والتحضير لسيناريو ما بعد السقوط.
وانطلاقاً من هذا المنظور، يمكن القول إن إيران تعيش اليوم مرحلة ما بعد 1991 وقبل 2003 عراقية؛ أي أنها في طور "الاحتواء الطويل"، بانتظار حسم لم تتقرر لحظته بعد. والسؤال الجوهري: هل سيتم إسقاط النظام من الداخل الإيراني نفسه، عبر انتفاضة شاملة أو حركة سياسية بديلة؟ أم من الخارج، بعملية جراحية محدودة أو تدخل مباشر؟ وهل ستعيد القوى الكبرى تكرار أخطاء التجربة العراقية، أم أنها استخلصت منها دروساً جديدة؟
المؤكد أن هذا الصراع، كما في الحالة العراقية، لن يُترك لتطورات عشوائية، بل يُدار وفق هندسة استراتيجية معقدة، حيث تُستخدم الحرب كأداة، وتُصنع النهايات في غرف القرار السياسية، لا في ميادين القتال. وما الطائرات والصواريخ إلا أدوات لتنفيذ قرارات صيغت في مراكز القوى في واشنطن وتل أبيب وعواصم غربية أخرى، بعد أن تكتمل شروط التفكك من الداخل، وتُرسَم خرائط المستقبل في الكواليس.
- الأبعاد الداخلية: تصعيد القمع وتفكيك الحراك القومي
في خضم التوترات الخارجية التي تفرضها المواجهة مع إسرائيل والضغوط الدولية المتزايدة على طهران، تتخذ القيادة الإيرانية من هذا السياق الإقليمي المتوتر ذريعةً لتصعيد قبضتها الأمنية داخلياً، وتوسيع ممارسات القمع السياسي والعرقي، خصوصاً تجاه الأقليات القومية مثل الكورد والعرب والأذريين والبلوش. فالنظام، في لحظات ما يُسمّى بـ"الهدنة العسكرية" أو "الاحتواء المرحلي"، لا يرى في هذا الهدوء المؤقت فرصةً لمراجعة الذات أو تهدئة الجبهات الداخلية، بل يستغله لتعزيز أدوات السلطة وإخماد أي صوت قد يُشكّل تهديداً على المدى البعيد.
من الناحية السياسية، تسعى طهران إلى تقويض الحركات القومية والإثنية داخل البلاد، باعتبارها - في نظر النظام - "امتدادات خارجية" تُستخدم من قبل الخصوم الإقليميين والدوليين للتشويش على الوحدة الوطنية أو لاختراق النسيج الأمني للدولة. ويُبرّر هذا القمع رسمياً في الإعلام الإيراني تحت لافتة "مواجهة المخططات الانفصالية"، لكنه يُترجم على الأرض في صورة حملات اعتقال جماعية، ومحاكمات صورية، وعمليات إعدام سرية وعلنية، فضلاً عن مداهمات مستمرة للمناطق الحدودية والقرى الريفية، التي تُعدّ الحاضنة الاجتماعية لتلك الأقليات.
في كوردستان إيران، على سبيل المثال، تُفرض حالة طوارئ غير معلنة منذ سنوات، وتُدار المناطق الكوردية بمنطق أمني صرف، حيث يُحرَم السكان من أبسط أشكال المشاركة السياسية، أو حق التعليم بلغتهم، أو التعبير عن هويتهم الثقافية. وتُواجَه أي حركات احتجاج سلمية، كالمظاهرات الطلابية أو النقابية، بالقمع الفوري والعنيف، ويُوصم المشاركون فيها بـ"العمالة" أو "الانفصالية". وينسحب الأمر نفسه على عرب الأهواز، الذين يُعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية، ويواجهون تهميشاً اقتصادياً وإقصاءً سياسياً ممنهجاً، في مناطق غنيّة بالنفط لكنها غارقة في الفقر والحرمان.
أما في المناطق الآذرية، فبرغم أن أبناء هذه القومية يُشكّلون أحد أكبر المكونات السكانية في البلاد، إلا أن الحديث عن حقوقهم الثقافية أو مطالبهم الاجتماعية يُواجَه بتجاهل رسمي أو بازدراء سياسي، ويُختزل انتماؤهم الوطني بقدر ولائهم للنظام، لا بهويتهم أو تطلعاتهم.
في هذا السياق، يبدو أن النظام الإيراني يدير الداخل بعقلية "المركز مقابل الأطراف"، حيث تُحكم السيطرة على العاصمة والمراكز الحضرية الكبرى سياسياً واقتصادياً، بينما تُترك المناطق الطرفية والمهمّشة تحت سلطة الأجهزة الأمنية والعسكرية، حتى وإن أدى ذلك إلى إشعال توترات اجتماعية مستدامة.
الهدف من هذه السياسات القمعية الممنهجة هو تفكيك أي حراك قومي أو اجتماعي قد يتحوّل إلى تهديد محتمل لسلطة الدولة المركزية، لا سيما في ظل تنامي السخط الشعبي الناتج عن التدهور الاقتصادي، وتفشي البطالة، وغياب العدالة الاجتماعية، وتعاظم الشعور بالتهميش التاريخي. فالنظام يدرك أن أزماته لا تنحصر في الخارج، بل تكمن خطورتها الحقيقية في الداخل، حيث تتراكم بذور الانفجار دون معالجة، بل تُواجه بمنطق القمع والمنع.
وما يزيد الوضع تعقيداً هو الربط المتعمد بين التهديدات الخارجية والداخلية، إذ تُصوَّر أي حركة احتجاج داخلية على أنها امتداد لمؤامرات أجنبية تقودها الولايات المتحدة أو إسرائيل، ما يتيح للنظام تبرير القمع باسم "حماية الأمن القومي". وهذا يمنحه غطاءً قانونياً ودينياً في نظر أجهزته القمعية، لكنه يُعمّق عزلة الدولة عن مجتمعها، ويُسهم في اتساع الهوّة بين السلطة والشعب.
ومع مرور الوقت، قد يتحوّل هذا القمع المكثّف إلى سلاح ذي حدين؛ فمن جهة، يمنح النظام أدوات للسيطرة والاستمرار، لكنه من جهة أخرى، يُراكم الاحتقان السياسي والاجتماعي، ويدفع الأقليات المضطهدة نحو خيارات أكثر تطرفاً، من بينها الانفصال أو العمل المسلح، ما قد يُدخل إيران في نفق حرب أهلية مؤجّلة قابلة للانفجار في لحظة مناسبة.
الأخطر أن هذا التصعيد لا يقتصر على الأقليات فقط، بل يمتد ليشمل الحركات الاحتجاجية الوطنية والمجتمعية، من طلاب ونشطاء ونساء ومثقفين، بل وحتى بعض رجال الدين المعارضين. ومع كل موجة قمع جديدة، تتآكل مساحة الحريات العامة، ويتفكك النسيج الاجتماعي لصالح دولة بوليسية تُدار عبر الاستخبارات والمحاكم الثورية والسجون السرية.
من هذا المنظور، فإن الاستقرار الظاهري داخل إيران لا يعكس قوة الدولة، بل يعكس شدة الكبت. وهذا النوع من الاستقرار القسري لا يمكن أن يصمد طويلاً أمام التراكم المتزايد للغضب المكبوت. فكل أزمة خارجية تُستغل لتعزيز القبضة الأمنية، لكنها لا تُعالج أصل المشكلة، ما يبقي إيران على فوهة بركان سياسي واجتماعي قد ينفجر في أي لحظة.
وبناء عليه، لا يمكن فصل الأبعاد الداخلية عن الحسابات الإقليمية والدولية. فمستقبل إيران، سياسيًا وجيوسياسيًا، يتوقّف بدرجة كبيرة على كيفية إدارة النظام لعلاقته بشعبه، لا فقط علاقته بخصومه الخارجيين. فالسؤال لم يعد: هل سيستمر النظام في قمع شعبه؟ بل: إلى متى سيتمكن من ذلك قبل أن تفرض المعادلات الداخلية تغييرًا لا رجعة فيه؟
- مصالح القوى الكبرى: بقاء النظام كأداة استراتيجية في لعبة التوازن
رغم الشعارات العدائية والتصريحات المتبادلة التي توحي بأن الصراع بين الولايات المتحدة وإيران يتجه نحو مواجهة شاملة، فإن قراءة أعمق لسلوك القوى الكبرى، وعلى رأسها واشنطن، تكشف عن استراتيجية مزدوجة تُبقي النظام الإيراني قائماً، لا حبّاً به، بل باعتباره أداة حيوية ضمن هندسة التوازنات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط. هذا التناقض الظاهري بين الخطاب العدائي والسياسات الواقعية ليس جديداً في العلاقات الدولية، بل هو جزء من منهج أمريكي متكرر، يقوم على استخدام الأنظمة "المشاغبة" كورقة ضغط في مواجهة حلفاء واشنطن وخصومها في آنٍ معاً.
منذ الثورة الإيرانية عام 1979 وحتى اليوم، لم تُظهر الولايات المتحدة سياسة متسقة تهدف بشكل واضح إلى إسقاط النظام الإيراني. بل إن معظم الإجراءات التي اتُّخذت، من العقوبات الاقتصادية إلى الضربات المحددة، صُمّمت للضغط لا للإطاحة. وهذا يعكس رؤية استراتيجية تعتبر أن وجود نظام معادٍ لفظياً، لكنه قابل للضبط سياسياً واقتصادياً، يخدم أهدافاً متعددة:
أولاً: استخدام طهران كـ"فزاعة" أمنية
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن وجود نظام إيراني ذي خطاب ثوري وعدائي يُقدَّم باستمرار كتهديد للأمن الخليجي، يشكّل وسيلة فعالة لابتزاز دول الخليج وإبقائها في حالة تبعية أمنية دائمة. فكلما تصاعد التوتر مع طهران، ازداد الطلب الخليجي على الحماية الأمريكية، وتدفقت صفقات الأسلحة بمليارات الدولارات، مما يضمن بقاء السوق العسكري الأمريكي مفتوحاً ونشطاً في المنطقة. بمعنى آخر، يُستخدم "الخطر الإيراني" لتثبيت حضور القواعد الأمريكية، وربط أمن الخليج بشبكة المصالح الاستراتيجية لواشنطن.
ثانياً: تقليم أظافر إيران لا اجتثاثها
لا تقوم الاستراتيجية الأمريكية على الإطاحة بالنظام الإيراني كما حدث في العراق عام 2003، بل على احتوائه وترويضه. فمن خلال العقوبات والضربات المحسوبة، يتم تقليص نفوذ إيران الإقليمي دون تفجير الأوضاع داخلياً بما يؤدي إلى انهيار شامل. فالفوضى في دولة كبرى مثل إيران، ذات موقع جيوسياسي حساس وثروات هائلة وبنية مجتمعية متشابكة، قد تفتح الباب لصراعات لا يمكن التحكم بنتائجها، خاصة في ظل تصاعد التنافس الروسي–الصيني على النفوذ العالمي.
ثالثاً: النظام الإيراني بوصفه كابحًا للنفوذ الروسي والصيني
تلعب إيران دوراً رمادياً في النظام الدولي؛ فهي حليف غير معلن لروسيا والصين، لكنها في الوقت ذاته ليست حليفاً موثوقاً بالكامل، ولا تدخل تحت مظلتهما الاستراتيجية بشكل تام. وهذا الوضع الهجين يسمح لواشنطن بمراقبة تحركات خصومها من داخل الإقليم، بل واستخدام إيران كمستنقع استنزاف لموسكو وبكين. فالتورط الروسي في سوريا، والدعم الصيني للاقتصاد الإيراني، يتم تحت سقف الضغط الغربي، مما يُقيد قدرة هاتين القوتين على توسيع نفوذهما بأريحية.
رابعاً: النظام الإيراني شريك في "إدارة الأزمات" لا في حلّها
الولايات المتحدة، ومعها القوى الغربية، لا تسعى إلى حلّ الأزمات في الشرق الأوسط، بل إلى إدارتها بما يضمن استمرار الحاجة إلى وجودها السياسي والعسكري. وهنا تلعب إيران دوراً حاسماً في إبقاء العديد من الأزمات مفتوحة ولكن مضبوطة: من لبنان إلى العراق، ومن سوريا إلى اليمن. تمسك طهران بمفاتيح التأزيم والتهدئة، ما يجعل منها طرفاً لا يمكن تجاوزه في أي تسوية محتملة، بل ضرورة تفاوضية حتى في أوقات الذروة التصعيدية.
خامساً: دعم الأنظمة المتناقضة ليس تناقضاً بل سياسة
ما يُلاحظ من دعم أمريكي لأنظمة متباينة — كدعمها للسعودية المحافظة من جهة، ولإسرائيل العلمانية من جهة أخرى، وتعاملها مع حكومات عراقية قريبة من إيران — لا يمثل تناقضاً بقدر ما يعكس براغماتية سياسية تقوم على اعتبار المصالح بُنيت على الوظيفة، لا على الانتماء العقائدي. وإيران في هذا السياق لم تخرج عن هذه القاعدة؛ بل حتى خلال عهد ترامب الذي رفع شعار "أقصى ضغط"، لم تصل الأمور إلى حدود الضربة القاضية، بل استُخدمت إيران كورقة ضغط على أوروبا، ورافعة لتسويق مشاريع مثل "صفقة القرن"، وذريعة للانسحاب من الاتفاق النووي.
سادساً: واشنطن تحتاج إلى "عدو دائم"
من منظور سياسي–اقتصادي داخلي، تحتاج واشنطن إلى عدو خارجي دائم لتبرير الإنفاق العسكري الضخم، وتغذية الصناعات الدفاعية، وشحذ الحس القومي، وتحويل أنظار الرأي العام نحو قضايا "أمن قومي" تُسوَّق داخلياً. فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، واحتواء صدام حسين، كانت إيران هي المرشحة الأبرز للعب هذا الدور، بخطابها الثوري، وتحالفاتها الإقليمية، ودعمها لجماعات مصنفة إرهابية، وتورطها في ملفات حساسة على الساحة الدولية.
في الختام، النظام باقٍ ما دام يخدم التوازن.. التحليل العميق لسلوك القوى الكبرى يُظهر أن بقاء النظام الإيراني، رغم كل ما يُقال عن تهديده وخطورته، ليس فشلاً في السياسات الغربية، بل نجاح محسوب ضمن خطة استراتيجية طويلة الأمد، تقوم على استخدام الأزمات لا حلّها، وابتزاز الأطراف لا تهدئتها. فالنظام الإيراني لا يبقيه الشعب وحده، ولا قدراته الذاتية فقط، بل تحميه حاجة القوى الكبرى إلى نظام وظيفي يُستخدم في لعبة المصالح، ضمن توازن هش ولكنه فعّال.
ولعلّ السؤال الحقيقي لم يعد: "هل ستسقط إيران؟"، بل: "متى تنتهي صلاحية النظام بوصفه أداة استراتيجية؟". وحتى يحين ذلك، ستستمر المعركة على السطح، وستُدار الصفقة في العمق، حيث تُرسم السياسات الكبرى، لا في طهران أو تل أبيب، بل في واشنطن، وبدرجة أقل في بكين وموسكو.
- فشل التوقعات: تعقيد الصراع وأوهام الانتصار
على مدى سنوات، ساد اعتقاد شائع بين العديد من المراقبين والمحللين السياسيين، خاصة في بعض الأوساط الإعلامية الغربية والعربية، بأن تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل، أو بين إيران والولايات المتحدة، سيفضي عاجلاً أم آجلاً إلى سقوط النظام الإيراني. وقد رُوّج لهذا السيناريو بعد كل أزمة كبرى، سواء في أعقاب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام 2018، أو بعد اغتيال قاسم سليماني، أو خلال جولات التصعيد في العراق وسوريا واليمن ولبنان، أو حتى خلال الاحتجاجات الشعبية الكبرى في الداخل الإيراني.
غير أن مجريات الواقع أثبتت فشل هذه التوقعات، ليس فقط لأنها لم تتحقق، بل لأنها استندت إلى مقاربات عاطفية أكثر من كونها تحليلات واقعية تستند إلى تفكيك بنية النظام الإيراني، وتقدير توازن القوى المحلية والدولية، وفهم طبيعة الصراع في الشرق الأوسط المعاصر.
إن التوقعات التي ربطت سقوط النظام الإيراني بمجرد ضغط خارجي أو تصعيد إقليمي أغفلت عوامل حاسمة، أبرزها:
أولاً: قدرة النظام الإيراني على امتصاص الأزمات
أثبت النظام الإيراني مرونة عالية في امتصاص الضربات، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، بل وتحويلها أحياناً إلى أدوات تعبوية داخلياً. فخطاب "المظلومية الثورية" والخطر الخارجي دائماً ما استُخدم لتبرير السياسات الأمنية وتقييد الحريات، وإعادة إنتاج السلطة المركزية.
ثانياً: غياب البديل الداخلي المتماسك
رغم كثافة الاحتجاجات الشعبية وتعدد حركات المعارضة، فإن النظام استطاع حتى الآن تفكيك البنية التنظيمية لأي بديل سياسي موحد. إذ إن القوى المعارضة إما مشتتة بين الداخل والخارج، أو مختلفة في الرؤى والأهداف، أو غير قادرة على تشكيل جبهة موحدة تُقنع الداخل والخارج بقدرتها على إدارة مرحلة انتقالية.
ثالثاً: تحفظ القوى الدولية من سيناريو الفوضى
القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وأوروبا، لا ترى في إسقاط النظام الإيراني بالقوة مصلحة مباشرة، خاصة مع تجارب سابقة كارثية في العراق وسوريا وليبيا. الفوضى في إيران، الدولة ذات الكثافة السكانية العالية، والثروات الهائلة، والموقع الجيوسياسي الحساس، قد تفتح الباب لصراعات إقليمية وأهلية لا تُحمد عقباها، وقد تُخلخل التوازنات الدولية في المنطقة، وتمنح روسيا أو الصين فرصة لتعزيز نفوذهما.
رابعاً: محدودية الرهانات الإسرائيلية
رغم العداء العلني بين إيران وإسرائيل، فإن الأخيرة تتبع استراتيجية قائمة على الضربات الموضعية لردع إيران، لا لإسقاط نظامها بالكامل. فاستقرار الحدود الشمالية، ومنع نقل الأسلحة المتطورة إلى حزب الله، وكبح الطموحات النووية، هي أولويات تل أبيب. أما تغيير النظام في طهران، فهو أمر يفوق قدرتها، وقد لا تضمن نتائجه، لا سيما إذا جاء البديل أكثر عدوانية أو فوضوية.
خامساً: سوء تقدير دور الأيديولوجيا والبنية العميقة
كثير من التحليلات وقعت في فخ تبسيط النظام الإيراني بوصفه سلطة سياسية فقط، متناسية أن طهران تجمع بين سلطة الدولة وبنية أيديولوجية دينية-ثورية عميقة، ممثلة بالحرس الثوري ومؤسسات ولاية الفقيه، التي تمتد شبكاتها إلى المجتمع والاقتصاد والتعليم والإعلام، وتشكل منظومة حكم شبه مغلقة. هذه البنية لا تنهار فقط بفعل ضغوط خارجية، بل تحتاج إلى تصدع داخلي شامل في النخبة السياسية والدينية والأمنية.
خلاصة، إن فشل التوقعات السابقة بشأن سقوط النظام الإيراني يؤكد على تعقيد المشهد، ويشير إلى أن ما يُبنى على الأوهام والرغبات السياسية لا يمكن أن ينتج قراءة دقيقة لمسار الصراعات الكبرى. فالصراع الإيراني–الإسرائيلي–الأمريكي لا تحكمه فقط منطق القوة العسكرية أو العقوبات، بل هو نتاج توازنات دقيقة بين مصالح متشابكة، وبُنى داخلية عصية على الانهيار السريع.
لقد آن الأوان لإعادة التفكير في منطق التحليل السياسي، بعيداً عن التبسيط المفرط أو الرغبات الثورية، واقتراباً من فهم أعمق للواقع الإيراني، ولطبيعة النظام، وللعبة التوازنات الإقليمية والدولية التي تحكم بقاءه.
- الاستنتاجات والسيناريوهات المستقبلية: إلى أين يتجه الصراع؟
بعد قراءة معمقة للوقائع الميدانية، وتحليل السيناريوهات السياسية، والأبعاد الداخلية، ومصالح القوى الكبرى، يتبيّن أن الصراع الإيراني–الإسرائيلي، بدعم من القوى الدولية، ليس نزاعاً عابراً، بل جزء من لعبة استراتيجية إقليمية ودولية معقدة لا تزال في طور التشكّل، تتداخل فيها عوامل متعددة وتوازنات هشة تفرض قراءات مختلفة على المدى المتوسط والبعيد.
أ. الاستنتاجات الرئيسية
- الصراع الحالي هو حالة دائمة من الحرب غير المباشرة (Proxy War) والحرب المنضبطة:
لا ينتقل الطرفان إلى مواجهة شاملة بسبب التبعات الكارثية المحتملة التي قد تشمل اشتعال حرب إقليمية واسعة، وتدخلات دولية متعددة، وتدميراً شاملاً للبنية التحتية الإقليمية. لذلك تحولت المواجهة إلى تبادل ضربات دقيقة، واستخدام وكلاء محليين وأطراف بالوكالة، مع اعتماد سياسة "الاحتواء المتبادل" التي تحافظ على التوازن.
- النظام الإيراني ليس هدفاً للإسقاط الكامل بقدر ما هو أداة في معادلة القوى:
القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا تسعى إلى انهيار النظام بشكل كامل لما قد يخلّفه من فراغ أمني وسياسي يصعب السيطرة عليه، لكنه في الوقت ذاته يخضع لضغوط مستمرة للحد من طموحاته الإقليمية والنووية.
- الأزمات الإقليمية لن تنتهي، بل ستظل متجددة ومُدارة:
وجود إيران قوية نسبياً يضمن استمرار حالة من "عدم الاستقرار المحكوم"، وهو ما يخدم مصالح القوى الكبرى في ضبط مجريات الأمور عبر أدوات سياسية وعسكرية واقتصادية معقدة.
- الأوضاع الداخلية في إيران هي العامل الحاسم في أي تغيير مستقبلي:
تصاعد القمع الداخلي، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وزيادة حدة الاحتجاجات، خاصة بين الأقليات القومية والطبقات الشابة، تشكل قنابل موقوتة قد تغير ميزان القوى الداخلي والإقليمي.
- التوازن الإقليمي هش ومتقلب:
مع تصاعد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، وزيادة تدخل القوى الإقليمية مثل تركيا والسعودية، يبقى الشرق الأوسط مسرحاً مفتوحاً لصراعات متعددة الأبعاد، لا يمكن اختزاله في صراع ثنائي فقط.
ب. السيناريوهات المحتملة
- سيناريو المواجهة الشاملة:
قد يؤدي تصعيد غير محسوب، سواء بفعل خطأ تكتيكي أو قرار سياسي متسرع، إلى اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل وإيران، ربما تشمل تدخلاً مباشراً من الولايات المتحدة وحلفائها. ستكون نتائج هذه الحرب مدمرة على المنطقة برمتها، مع احتمالية انهيار النظام الإيراني أو تغيّر جذري في سياسات القوى الكبرى تجاه الشرق الأوسط. ورغم انخفاض احتمال هذا السيناريو حالياً بسبب المخاطر الكبيرة، فإن تزايد التصعيد واللعب على حافة الهاوية يجعله ممكناً.
- سيناريو الاستمرار في الحرب المنضبطة:
يبقى السيناريو الأرجح، وهو استمرار حالة التوتر مع تبادل الضربات والضغوط الاقتصادية والدبلوماسية، ضمن إطار "الحرب الباردة" الإقليمية التي لا تنتهي إلا بتغيير الظروف الكبرى داخلياً أو خارجياً. في هذا الإطار، تواصل إيران تقوية نفوذها بالوكالة، وتستمر الولايات المتحدة وإسرائيل في تقليم أظافرها دون دفع المنطقة إلى انفجار شامل.
- سيناريو التحولات الداخلية المفاجئة:
قد تؤدي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية إلى انفجار داخلي داخل إيران، يأخذ شكل احتجاجات شعبية واسعة أو تمردات مسلحة للأقليات، مما يضع النظام أمام مأزق وجودي. في هذه الحالة، قد تتدخل القوى الخارجية بدعم فصائل داخلية لإحداث تغيير سياسي، لكنه قد لا يكون فورياً أو سلساً، بل مفتوحاً على فوضى وصراعات على السلطة.
- سيناريو التهدئة أو التفاهم الإقليمي:
رغم صعوبة هذا المسار، يمكن أن يؤدي تغيير في السياسات الإقليمية والدولية إلى تفاهمات جديدة تضمن تقليص التصعيد، ربما عبر اتفاقات جديدة تخص الملف النووي الإيراني، أو عبر وساطات إقليمية ودولية تعيد ترتيب الأدوار بما يحقق مصالح أطراف متعددة. هذا السيناريو يحتاج إلى تراجع الحسابات الانفعالية واستعدادات لفتح حوارات استراتيجية طويلة الأمد.
ج. عوامل مؤثرة في المستقبل القريب
- التطورات في الملف النووي الإيراني: نجاح المفاوضات أو فشلها سيكون له تأثير كبير على توازن القوى وعلى قرارات التحالفات.
- الديناميات الاقتصادية: تدهور الاقتصاد الإيراني أو تحسن العلاقات مع بعض الدول يمكن أن يؤثر بشكل مباشر على قدرة النظام على الصمود أو على توسيع نفوذه.
- الدور الروسي–الصيني: مدى دعم هاتين القوتين لطهران سيحدد إلى حد كبير مقدار الضغط الذي يمكن أن تتعرض له إيران.
- الاحتجاجات الداخلية: حجم واستمرارية الحركات الشعبية داخل إيران، خصوصاً بين الأقليات والطبقات المتوسطة والشباب، قد تُحدث اختراقات في هيمنة النظام.
- المواقف الإقليمية: مواقف السعودية، تركيا، ودول الخليج ستلعب دوراً في إعادة تشكيل الخارطة الأمنية والسياسية للمنطقة.
خلاصة، إن الصراع بين إيران وإسرائيل، بتأثير القوى الكبرى، هو ملف معقد يختزل فيه الشرق الأوسط كل تناقضاته وتحدياته. الحلول الدائمة غير متاحة في الأفق القريب، والمناطق الرمادية ما زالت تسيطر على اللعبة السياسية. بينما يبدو النظام الإيراني في وضع هش لكنه صامد، تستمر القوى الإقليمية والدولية في إعادة ترتيب أوراقها على هذه الطاولة الهشة، التي يمكن أن تنهار في أية لحظة، لكنها قد تستمر على هذا النحو لعقود، ضمن صراع طويل الأمد على النفوذ والهيمنة.
الخاتمة:
الصراع الإيراني–الإسرائيلي ليس صراعاً ثنائياً تقليدياً، ولا هو مجرد أزمة عابرة تُحلّ عبر مفاوضات أو تهدأ بضربات جوية محدودة، بل هو تجلٍ مكثف لصراع أوسع وأكثر تعقيداً، يمتد في جذوره إلى خرائط النفوذ الإقليمي، وتوازنات القوى الدولية، وصدام المشاريع الاستراتيجية في قلب الشرق الأوسط. فإيران، كما إسرائيل، ليستا مجرد دولتين فاعلتين في الإقليم، بل نقطتا ارتكاز في شبكة توازنات تشمل الولايات المتحدة، روسيا، الصين، الاتحاد الأوروبي، ودول الخليج، فضلاً عن حركات وجماعات غير دولتية تتوزع على أكثر من ساحة صراع.
في هذا السياق، لا يمكن قراءة سلوك النظام الإيراني باعتباره مجرد رد فعل، بل بوصفه جزءاً من مشروع سياسي–أيديولوجي–أمني طويل الأمد، يسعى إلى فرض نفسه لاعباً إقليمياً ثابتاً، عبر أدوات "إدارة الأزمات" لا حلها. وهذا ما يفسر انخراط طهران في جبهات متعددة (العراق، سوريا، لبنان، اليمن، وأفغانستان)، ويُبرر في الوقت ذاته حالة العداء المزمن مع إسرائيل، التي ترى في هذا المشروع تهديداً وجودياً وتعمل على كبحه عبر تحالفات دولية وإقليمية دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
لكن خلف كل هذه الطبقات الجيوسياسية، تقبع حقيقة واحدة: أن الشعوب، لا الأنظمة، هي من تدفع الثمن الباهظ لهذا الصراع المفتوح. فالشعب الإيراني، الذي يرزح تحت العقوبات والانهيار الاقتصادي والقمع السياسي، لم يعد يملك مساحة كافية للصبر. وينطبق الأمر ذاته على شعوب العراق وسوريا ولبنان واليمن، التي تحوّلت فيها السياسات الإقليمية إلى جحيم يومي من الانهيار والخوف والشتات.
وإذا أردنا أن نفهم مستقبل هذا الصراع بعمق، فعلينا أن نتحرر من أسر التحليلات السطحية، وأن نتجاوز اختزال المشهد في ثنائيات مُضلِّلة من قبيل "الخير والشر" أو "الممانعة والعمالة"، وأن نعيد التفكير في طبيعة النظام الإيراني، لا فقط من حيث عداؤه الظاهري لإسرائيل، بل من حيث بنيته الداخلية التي تجمع بين التسلّط الأمني، والاحتكار الأيديولوجي، والتدخل الخارجي على حساب الداخل.
إن بقاء النظام الإيراني حتى الآن لا يعني انتصاره، بل يعكس تعقيد اللعبة التي تديرها القوى الكبرى، حيث لا يُسمح لأحد بالانهيار الكامل، ولا بالصعود الحر. لكن هذا البقاء ليس أبدياً، لأنه لا يستند إلى شرعية داخلية حقيقية، بل إلى أدوات قمع وتحالفات خارجية وظيفية. ومع مرور الوقت، تتآكل هذه الأدوات بفعل الضغوط الاجتماعية، والاحتجاجات المتكررة، وتفاقم الفجوة بين السلطة والشعب، والانكشاف المتزايد أمام المجتمع الدولي.
نعم، سيسقط النظام الإيراني عاجلاً أم آجلاً.
لكن هذا السقوط لن يكون بالضرورة عبر حرب خارجية أو ثورة فورية كما يتخيّل البعض، بل عبر تآكل بطيء، وتفكك داخلي طويل الأمد، وانهيار تدريجي للشرعية السياسية والاجتماعية والدينية. سيكون سقوطاً من الداخل، يُمهَّد له بصراعات الجيل الجديد، وبانتفاضات الأقليات، وبتمرد المدن الهامشية، وبالشرخ المتزايد داخل النخبة السياسية والعسكرية.
وقد لا يأتي هذا التغيير على شكل مشهد دراماتيكي كما حدث في بغداد عام 2003، بل عبر سلسلة تحولات وتصدّعات لا تُرصد بسهولة، لكنها تسير بتسارع خفي نحو نقطة اللاعودة. وفي لحظة ما، ستسقط ورقة التوت عن نظام طالما قدّم نفسه كـ"نظام مقاومة"، في حين أنه لم يفعل سوى مقاومة شعبه.
لذا فإن السؤال لم يعد: هل سيسقط النظام الإيراني؟ بل: كيف، ومتى، وعلى يد من؟
وهل سيكون هذا السقوط فرصة لتأسيس نظام ديمقراطي يعكس تطلعات الشعب الإيراني وكافة مكوناته، أم أنه سيفتح الباب أمام فوضى أخرى تُدار من غرف القوى الكبرى؟
إجابة هذا السؤال ستحدد، ليس فقط مصير إيران، بل شكل الشرق الأوسط لعقود مقبلة.