بقلم: د. عدنان بوزان
أنا والليل رفيقان منذ زمن بعيد، كلما حلّ المساء جلسنا معاً، نتحاور بصمتٍ لا يسمعه سوانا، ونناقش أحزاناً عتيقة لم تبهت رغم مرور الأعوام. الليل وحده يعرف سرّي، يعرف كم حملتُ من أوجاعٍ لم أستطع أن أبوح بها لأحد، وكم من ذكرياتٍ تحاصرني كلما غابت الشمس، فتُثقل روحي وتُشعل في داخلي لهيباً لا ينطفئ.
أسأله بصوتٍ خافت: "إلى متى يا ليل؟ إلى متى أظل أسير الماضي، أفتّش بين أزقته عن وجوهٍ لم تعد هنا، وعن أصواتٍ تلاشت مع الزمن؟" لكنه لا يجيب، فقط يمدّ عباءته السوداء فوق رأسي، كأنه يحتويني، وكأنه يخبرني أنه هنا، وأنه الوحيد الذي لن يرحل عني مهما طالت الليالي.
كم مرةً أخبرته عن حلمٍ كنت أتمناه، لكنه ضاع وسط زحام الحياة؟ كم مرةً حكيت له عن لقاءٍ لم يكتمل، عن حبٍ كان كزهرةٍ نبتت في غير موسمها، فذبلت قبل أن يمنحها المطر فرصةً للحياة؟ الليل يفهمني، يعرف أنني، رغم كل ما أُظهره من صلابة، مجرد قلبٍ واهنٍ يترنح بين الذكرى والحنين.
الليل يعكس وجهي الحقيقي، لا أقنعة ولا تصنّع، فقط أنا، بكل حزني، بكل ندمي، بكل الأحاديث التي لم أجرؤ على قولها لأحد. أحياناً أشعر أنه مرآتي، يريني نفسي كما هي، بلا زيفٍ أو خداع، فأكتشف أنني أكثر ألماً مما ظننت، وأكثر وحدةً مما توقعت.
تعبت يا ليل، تعبت من هذه الحوارات التي لا تنتهي، من هذه الذاكرة التي لا تكفّ عن استدعاء الوجوه الغائبة، من هذا القلب الذي لم يتعلم بعدُ كيف ينسى. أما زلت تظن أن الفجر سيحمل معه خلاصاً؟ أما زلت تؤمن أن الضوء قادرٌ على مداواة الجراح؟
لكنك، رغم قسوتك، رغم صمتك الموجع، رغم ثِقَل حضورك، تبقى الصديق الأوفى، تبقى الملجأ الوحيد الذي يحتمل كل هذا البوح، كل هذا الانكسار. فلتبقَ معي يا ليل، حتى وإن كنت مرهقاً من أحاديثي، حتى وإن كان صمتك يؤلمني أكثر مما يواسيني.
أنا والليل.. قصةٌ لا نهاية لها، حوارٌ ممتد بين قلبٍ لا يهدأ، وظلامٍ لا يشيخ.