بقلم: د. عدنان بوزان
أيا ليل، كم أنت طويل! وكم تحمل في طياتك من أسرار العابرين وأوجاع الساهرين الذين أنهكتهم الحياة وأثقلتهم الهموم! كم من عاشقٍ هام في ظلامك باحثاً عن دفء الذكرى، وكم من غريبٍ جلس على عتباتك يُحصي أنفاسه المتعبة، وكم من قلبٍ ضائعٍ في أروقتك يترجّى بزوغ الفجر، لكنه لا يأتي إلا على مهل!
أيا ليل، أنت البحر الأسود الذي نغرق فيه، ولا ندري إن كان سيقذف بنا نحو شاطئ النجاة، أم سيُبقينا عالقين بين أمواجه العاتية، نتخبط في ظلمات الوحدة، ونتحسس وجوهنا بحثاً عن أنفسنا التي ضاعت بين زواياه.
أيا ليل، كيف تجرؤ على أن تكون بهذا السكون، بينما في صدورنا ضجيج لا يهدأ؟ كيف تستطيع أن تنشر هدوءك فوق الأرض، بينما في داخلنا عاصفة من الذكريات والندم والشوق الذي لا يخمد؟ كم من قلبٍ مثقلٍ بالعذاب نام في أحضانك باكياً! وكم من عينٍ جفّ دمعها، وهي تحدّق في سقف غرفةٍ مظلمة، تفتش عن نجمةٍ وحيدة تخبرها أن الأمل لا يزال هنا!
أيا ليل، كم من حلمٍ تساقط تحت ستارك! وكم من أملٍ انطفأ في عمق ظلمتك! وكم من قصة حبٍ لم تكتمل، ومن كلماتٍ لم تُقل، ومن رسائل لم تُكتب، ومن وداعٍ لم يُعلن عنه، لكنه كان أعمق من كل الفراق!
كم هو مؤلم أن يكون الليل مرآةً للروح، ننظر فيه فنتعرّى أمام أنفسنا، فلا نرى إلا عيوبنا، ولا نسمع إلا صدى آهاتنا! وكم هو قاسٍ أن يكون الليل شاهداً على عجزنا، فنمدّ أيدينا إلى السماء نتوسّل الرحمة، ونتمنى أن يمضي سريعاً، لكنه لا يفعل إلا حين يشاء!
وفي النهاية، حين ينهكنا السهر، وتغلبنا العيون، وتذبل دموعنا، وتهدأ أرواحنا المنهكة، يطلع الفجر أخيراً، كأنه يعتذر عن كل الألم الذي حمله الليل، لكنه يترك خلفه أثراً لا يُمحى، كأن الليل يهمس لنا قائلاً: "أنا لا أرحل، بل أعود كل يوم، فلا تهربوا مني، فأنا مرآة أحزانكم، وأنا الصديق الوحيد الذي لا يخذلكم!"