بقلم: د. عدنان بوزان
لم أنطق باسمكِ يوماً، لأن الأسماء تضيقكِ كما يضيق القفصُ طائرَ النور، ولأن الحروف ـ مهما اجتمعتْ ومهما تراصتْ ـ تبقى قاصرةً عن حمل وزنكِ الذي يفوق اللغات. أنتِ لستِ نداءً يستجاب، بل رجفةٌ تقتحم الجسد دون إذن، ولمحة غيابٍ تتحول حضوراً، وأمنيةٌ تزهر في صمتٍ لا يعرف الأفول.
كتبتُ كثيراً، وأشعلتُ من لغتي قناديلَ للناس؛ هتفوا باسمي، وصفقوا لقصائدي، وحملوا كلماتي كما يحمل السيف في مواكب الانتصار. لكنني حين التفت إلى داخلي، أدركتُ أن أعظم بيتٍ لم يبنَ بعد، هو ذاك البيت الخفي، حيث تسكنين وحدكِ، في أعمق أعماق قلبي الذي لم يعرف ساكناً سواكِ.
أيتها الخارجة من رحم الروح، يا من كسرتِ كبرياء رجلٍ ظن أنه لا يؤسَر ولا يكسَر… لم أركع في حربٍ ولا في حضرة ملك، حتى جئتِ أنتِ، فانحنى العمر كله لكِ دون مقاومة. كنتُ أظن أن الحب كلمة تقال، فإذا بكِ تكشفين أنه سطوة تعصف بالإنسان، وتجرده من نفسه، وتجعل السيوفَ أمامه لعباً من حديدٍ لا تجرح ولا تصيب.
أكتب إليكِ، لا لأزيد الدنيا بيتاً في ديوان، ولا لأزين جداراً بكلمات، بل لأشهد أن دمي نفسه صار حِبراً، وأن كل رسالةٍ لكِ ليست سوى نزفٍ مفتوح على الورق. ما عاد شعري فخراً، ولا هجاءً، ولا مديحاً؛ صار اعترافاً، صار انكساراً، صار يقيناً بأنني ـ رغم سيادتي على القوافي ـ لم أجد حرفاً يتسع لامتدادكِ.
فلتظل هذه الكلمات عالقةً في بريد الزمن، تمشي على أقدام القرون حتى تبلغكِ. فإذا وصلتكِ، فاعلمي أنّ صوتي ما زال حيّاً، وأنه لم يخلق ليسمع في أسواق الشعراء وحدها، بل ليمتد إليكِ، أنتِ التي لا يليق بها إلا الخلود.
أنتِ المعنى الذي يتوارى في الغيب، والسر الذي يهب للأيام معنى، واليقين الذي يجعل من التيه طريقاً، ومن الفقد ملاذاً، ومن الألم صلاة.
وإن كان للروح تاجٌ يعلو على الدنيا وما فيها، فأنتِ تاجي… وإن كان للزمن ذاكرة تنقش فوق صخور الأبد، فأنتِ النقش الذي لا يمحى.
يا امرأةً لا تسكنها الكلمات، بل تسكن هي الكلماتَ، ويا ضوءاً لا يرى بالعين، بل يدرك بالنبض… ابقي كما أنتِ: غيباً يشعل الحاضر، وظلاً يكتبني من جديد، كلما حسبت أنني انتهيت.