بقلم: د. عدنان بوزان
في مثل هذا اليوم، التاسع عشر من أيلول 2014، لم يكن صباح كوباني عادياً. الشمس التي اعتدناها دافئةً، حنونةً على حجارتنا وطرقاتنا، جاءت يومها مثقلةً بالرحيل، حمراءَ كجرحٍ مفتوح، لا تمنح دفئاً، بل تهمس لنا أنَّ زمن الاقتلاع قد حان. على جدران بيوتنا، التي حملت أصواتنا وضحكاتنا، كتب الموعد الأخير مع الأرض، مع الطفولة، مع ما تبقّى من حياةٍ كنا نظنها راسخةً كأشجار التوت والزيتون.
انفتح الجرح على اتساعه، فالوطن الذي كان ينام في قلوبنا تحول إلى ذاكرةٍ تتساقط من بين أصابعنا كما يتساقط الرمل في ساعةٍ رملية لا تتوقّف. تركنا خلفنا كل شيء: بيوتاً كانت تخبئ أسرارنا الصغيرة، أزقّةً حملت أسماءنا، جدراناً صارت صدىً لخطواتنا، وأشجاراً شهدت على مواسم حبنا وأفراحنا وبكائنا. تركناها هناك، في قلب الريح، كأننا نودّع جزءاً من أرواحنا. لم نحمل معنا سوى قلوبٍ مثقلة بالوجع، وأعينٍ غارقة في المجهول، وخطا تتعثر في طرقٍ لم نرسمها يوماً.
كانت التغريبة الكوبانية اقتلاعاً لا يشبهه اقتلاع. لم تكن مجرد نزوحٍ من جغرافيا محددة، بل كانت خلخلةً للروح في أعماقها، وكسراً للمرايا التي تعكس وجوهنا. صرنا غرباء حتى عن أنفسنا، نتأمل وجوهنا فلا نعرفها. صار المنفى ليس مكاناً بعيداً فحسب، بل غربةً داخلية، انشقاقاً عن الذات، وتيهاً لا بوصلة فيه سوى الذاكرة.
في مثل هذا اليوم تبدّل مسار حياتنا إلى الأبد. كنا نظن أننا نكتب سطراً عابراً في كتاب النزوح، فإذا بنا نساق إلى كتابة فصلٍ كامل في كتاب الإنسانية عن الظلم والتشرد، فصلٍ مثقلٍ بالدمع والدم، لكنه أيضاً مزروعٌ بألف بذرة صمود. نحن أبناء التغريبة الكوبانية نحمل على أكتافنا ثِقلاً لا يراه أحد، جرحاً مفتوحاً لا يندمل، ووعداً مؤجّلاً بالعودة، وحلماً نخبئه في أعماقنا حتى لا تسرقه المنافي.
التغريبة لم تكن مجرد حدث، بل كانت انعطافاً قاسياً، وبوابةً إلى منفى طويل امتدت أيامه فصارت متشابهة كالظلال، ولياليه مثقلةً بالحنين الذي لا ينام. ومع ذلك، لم ينكسر فينا الحلم. فما زلنا نؤمن أن في كل منفى، مهما طال، بذرة عودة تنتظر المطر، وأن كل جرح، مهما نزف، يبقى شاهداً على أننا ما زلنا أحياء، نقاوم الموت بالذاكرة.
التغريبة الكوبانية ليست ذاكرة ألمٍ فقط، بل ذاكرة كرامةٍ وصمود. ففي كل عينٍ أُغرقت بالدمع، يولد أفقٌ جديد، وفي كل طفلٍ مشرّد، يكتب مستقبلٌ آخر أكثر عناداً للحياة. وكوباني، تلك المدينة الصغيرة التي أرادوا محوها من الجغرافيا، ستظل فينا البوصلة، والجذر، والجرح، والقصيدة التي لا تنتهي.
يا كوباني، في مثل هذا اليوم غادرناك جسداً، لكنك بقيتِ في أرواحنا وطناً لا يغادر. سيظل اسمك محفوراً في قلوبنا كندبةٍ مقدّسة، وسنظل نردّد: مهما طال المنفى، ومهما قست المنافي، سنعود. لأنك البداية التي لا تنطفئ، والأم التي لا تموت، والبيت الذي لا يهدمه الزمن.