بقلم: د. عدنان بوزان
إن تخلي قوى الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكوردي عن مطلب الفيدرالية خلال الأشهر الأخيرة لم يكن مجرد خطوة تكتيكية أو تنازلاً مرحلياً، بل كان هدية مجانية قدمت على طبق من ذهب لأحمد الشرع ( أبو محمد الجولاني ) ما تسمى الحكومة الانتقالية في دمشق وللقوى الداعمة لها، مما منحهم الجرأة لإعادة ترسيخ الهيمنة المركزية عبر دستور إقصائي أحادي.
لطالما حذرنا من أن التراجع عن الحقوق الأساسية يفسح المجال أمام القوى المهيمنة لإقصاء المكونات التي لا تمتلك قوة تفاوضية كافية. ومع ذلك، اختارت القوى الكوردية، سواء طوعاً أو تحت ضغط، التخلي عن مطلب الفيدرالية، مما أدى إلى تقليص هامش الحقوق الكوردية في مسودة الدستور الجديد.
لم يكن هذا التراجع نتيجة لضغط داخلي فحسب، بل جاء أيضاً في سياق تفاهمات إقليمية ودولية تسعى إلى إرساء استقرار شكلي على حساب الحقوق الجوهرية للمكونات غير العربية. وإذا كان الكورد قد تعلموا شيئاً من تجارب الماضي، فهو أن التفاوض من موقع ضعف لا يجلب سوى المزيد من التهميش. ومع ذلك، جرى التخلي عن أهم مطلب استراتيجي لهم دون تقديم أي بديل يضمن الحد الأدنى من الحقوق القومية والثقافية.
المفارقة أن هذا التراجع لم يؤدِ إلى أي مكاسب سياسية حقيقية، بل أدى إلى تهميش دور الكورد في العملية السياسية السورية برمتها. فمن كان يظن أن تقديم التنازلات سيؤدي إلى الاعتراف بالشراكة، وجد نفسه أمام دستور يُعيد إنتاج المركزية بأبشع صورها. والمشكلة الكبرى أن هذه القوى لم تدرك بعد أن استبعاد الفيدرالية يعني، بالضرورة، استبعاد أي إمكانية لتمثيل الكورد تمثيلاً حقيقياً في مستقبل سوريا.
لقد شهدنا بيانات وتصريحات سياسية لم تذكر حتى كلمة "فيدرالية"، وكأنها حُذفت عمداً من الخطاب السياسي للقوى الكوردية. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يقف وراء هذا التراجع؟ ولماذا هذا الانسحاب الساذج الذي لم يجلب سوى المزيد من التهميش؟ إن الاعتقاد بأن التكيف مع المزاج السياسي الدولي يمكن أن يؤدي إلى تحقيق المكاسب هو خطأ استراتيجي فادح. فالقوى الكبرى تحترم فقط من يمتلك أوراق قوة، لا من يقدم التنازلات المجانية.
عندما تُهمل الثقة بالذات، يهملك الآخرون. وهذه هي الحقيقة التي تتجلى اليوم في المشهد السوري، حيث تحول الكورد من قوة سياسية تمتلك مشروعاً واضحاً إلى طرف مُهمَّش يُستبعد من رسم مستقبل البلاد. إن التراجع عن الفيدرالية لم يكن مجرد تنازل عن مطلب سياسي، بل كان تنازلاً عن الرؤية الاستراتيجية التي يمكن أن تضمن حقوق الكورد في دولة متعددة القوميات.
واليوم، بعد فرض هذا الدستور الإقصائي، لا يمكننا أن نكتفي برفضه فحسب، بل علينا أن ندرك أن إعادة طرح الفيدرالية كحل سياسي هو السبيل الوحيد لكسر الحلقة المفرغة من التهميش والإقصاء. إن أي مشروع سياسي يُبنى على استجداء الاعتراف من القوى المهيمنة محكوم عليه بالفشل. وحدها المشاريع القوية، المستندة إلى إرادة صلبة، يمكنها أن تُفرض على الطاولة. فهل تعي القوى الكوردية هذه الحقيقة قبل فوات الأوان؟