بقلم: د. عدنان بوزان
لا تُقيموا لي تمثالاً ...
ولا ترفعوا لي رايةً من برونزٍ أصمّ
دعوا اسمي يتسلل كالماء
في شقوق التراب
وفي رائحة الخبزِ الخارج من تنانير الفقراء.
لا تُقيموا لي تمثالاً
فأنا لستُ حجراً يبتسم للمارّين
ولا لافتةً على طريقٍ
يمرّ بها تُجّارُ الكلمات
أنا حكايةُ قمحٍ
لم يعرف الارتجافَ حين عضّته يدُ الجفاف
وأنا صرخةُ أمٍّ
لم تملّ الانتظار عند أبواب السجون
وأنا جرحُ وطنٍ
يوقظُ في كل طلقةٍ
أنفاسَ الأغاني القديمة.
لا تُقيموا لي تمثالاً
فأنا ما زلتُ أمشي في الأزقّة
أصافحُ وجوهكم المتعبة
وأجلسُ في المقاهي
كظلٍّ لحكاياتكم التي لم تكتب بعد
أنا الطفلُ الذي تركتم أحلامه عند أطراف البحر
كي تعودوا إلى قواربكم
دون أن تلتفتوا إليه
وأنا العائدُ الآن
بأشرعةٍ من صبرٍ
وبحبرٍ من دمٍ
لأكتب ما لم يجرؤ غيري أن يكتبه.
لا تُقيموا لي تمثالاً
اجعلوا وصيّتي أغنيةً
تسافر من حنجرةٍ إلى حنجرة
واجعلوا قبري هو الأرضُ كلها
كلُّ شجرةٍ مثمرةٍ على سفح جبلٍ
هي عظامي
كلُّ وردةٍ على قبر أمٍّ مجهولةٍ
هي قلبي
كلُّ بيتٍ طينيٍّ
أقامته أيديكم
هو وجهي الحقيقي.
لا تُقيموا لي تمثالاً
فأنا لم أغب
أنا في كل يدٍ تزرعُ
وفي كل يدٍ تُقاوم
أنا في المطرِ حين يعانقُ عشبَ التلال
وفي الريحِ حين توقظُ أساطيرَ الأجداد
أنا في لهفةِ طفلٍ يعلقُ حقيبة المدرسة
ويحلمُ أن يكمل الدرس بلا انقطاع
أنا في الشارعِ الذي يحملُ خطاكم
وأحلامكم
وسؤالكم الأبديّ عن غدٍ عادل.
لا تُقيموا لي تمثالاً
ولا تبنوا لي ضريحاً
يؤمّه السياسيّون في ذكرى الخطابات
أريد أن أكون في القلوب
لا في الميادين
في ألسنة الأطفال
لا في منصّات الإعلام
في حبر الكتّاب
لا في رخام المتاحف.
أنا وصيّةُ الغائبين العائدين
ولستُ غائباً
أنا جذوةٌ في دمكم
ونقشُ صمتكم
وصدى أغنياتكم المنسيّة
أنا باقٍ في قمحكم
وفي ماء بئركم
وفي وجوهكم التي لا تعرف الانكسار
فإن أردتم قبري
فاكتبوا على رصيف الوطن:
«هنا لم يمت أحد،
هنا استيقظت حياةٌ
من كلّ دمعةٍ وصَرخةٍ وحرفٍ».