بقلم: د. عدنان بوزان
في كلّ لحظةٍ تخرج فيها الشعوب إلى الشوارع، حاملةً آمالها على أكتافها، وصرخاتها في حناجرها، تقف الحُرّيّة شاهدةً بين الأمل والخيانة.
الحريّة، هذه الكلمة التي رُفعت بها أعلام الثورات، وسُحقت بها الأقدام في دهاليز السلطة، لم تكن يوماً وعداً صادقاً في أفواه الأنظمة، بل كانت دوماً ذريعةً لسفك مزيدٍ من الدماء، وقناعاً تُخفي خلفه الدولة العميقة وجه الاستبداد.
منذ أن تشكّلت فكرة الدولة الحديثة، حين رُسمت الخرائط على موائد القياصرة والمستعمرين، كان مشروع الحريّة مشروعاً مكسوراً منذ الولادة.
وُلدت الدول من رحم العنف، من حبر المعاهدات وسكاكين التقسيم، فكيف ننتظر منها أن تمنح الحريّة لأبنائها؟
كانت "الدولة الوطنية" في الشرق الأوسط، في جوهرها، نسخةً مشوّهة من إرادة الخارج، غلافاً حداثياً لمضامين طائفية، عسكرية، قومية، تُقصي وتُدجّن وتُبيد.
في هذه الجغرافيا المنكوبة، تُكسَر أنفة الحريّة عند كلّ منعطف، لا لأنها ضعيفة، بل لأنّ السلط القومية والعسكرية والدينية أدركت منذ البداية أن أخطر ما يهدّد وجودها ليس الجيوش، ولا العقوبات، بل وعي الإنسان بحقه في أن يكون حرّاً.
في هذا الشرق الممزَّق، لم تكن الحريّة قيمةً دستورية، بل تهمة. كانت أولى كلمات الشهداء، وآخر أحلام المعتقلين، وكانت جريمةً لا تُغتفر في سجلات المخابرات.
تُكسَر أنفة الحريّة حين تُطعن الثورة في خاصرتها، لا من خصومها فقط، بل من أبنائها الذين باعوا دماءها مقابل المناصب، واستبدلوا صوت الناس بخطاب العقيدة، أو القومية، أو الولاء الخارجي.
تُكسَر حين تتحوّل الساحات إلى مقابر، والمطالب إلى فتاوى، والثوار إلى زعماء يخطّون دساتيرهم بمداد الخيانة.
لقد كُتب تاريخنا الحديث – لا بل تشكّل – بدماء أولئك الذين حلموا بدولة الإنسان، لا دولة الطائفة، ولا القومية، ولا العسكر.
كُتب بالدم، لأنّ الحبر كان تحت رقابة، والورق كان محتكراً لوزارات الإعلام، واللغة كانت تُصاغ وفق بيان الحزب الحاكم أو مجموعة من اللصوص وقطاعي الطرق والإرهابيين، لا وفق نبض الشارع.
في كلّ ساحة ثورة – من طهران إلى بيروت، من كوباني إلى الخرطوم، من تونس إلى غزة، ومن بغداد إلى دمشق – كانت الحريّة تُرفع على الأكتاف ثم تُلقى في الزنازين.
كانت تبتسم من وجوه الشهداء، ثم تُغتال في مؤتمرات المصالحة.
وكان التاريخ، كعادته، لا يُكتب إلا بإملاء المنتصر، لكنه حين يُكتب بدم الشهداء، يصبح حيّاً، مؤلماً، صادقاً... لا يُنسى.
تُكسَر أنفة الحريّة حين يجلس الديكتاتور مع صانعيه في الغرب، يفاوضهم على أمنهم مقابل صمتهم عن دماء شعبه.
تُكسَر حين تتحدّث الصحف الغربية عن "استقرار الأنظمة"، بينما تُصفّى الحناجر في السجون، ويُدفن الأحرار في المقابر الجماعية.
تُكسَر أنفة الحريّة حين يُختزل الوطن في زعيم، والدستور في خطبة، والهوية في لونٍ واحد، وتُمحى بقيّة الألوان بآلة التهجير والإبادة الثقافية.
أما كوردستان، فحكايةٌ لا تزال مفتوحة على جرح، تُجسّد انكسار أنفة الحريّة منذ سايكس–بيكو.
قُسّم الوطن الكوردي إلى أربع خرائط، حُرم من لغته، وتاريخه، وحقه في أن يكون.
في روجآفا، حين حاول الكورد أن يكتبوا تجربتهم السياسية بلغةٍ ديمقراطية تعددية، حاصرهم الجميع: النظام البعثي البائد، والمعارضة الإرهابية، وتركيا، وحتى المجتمع الدولي الذي صفق لانتصارهم على داعش، ثم تركهم وحدهم أمام العاصفة.
وفي باشور، كانت راية الاستفتاء في 2017 تعبيراً ناضجاً عن محاولة أن تنطق الحريّة بصوت الاقتراع لا فوهة البندقية.
لكن أنفة الحريّة انكسرت هناك أيضاً، على يد "الأشقاء" قبل الأعداء، وبتواطؤ دولي يحرس خرائطاً رُسمت على جماجم الشعوب.
حتى كوباني، المدينة التي أصبحت رمزاً عالمياً للمقاومة، لم يكن انتصارها على داعش فقط، بل على إرادةٍ عالمية كانت تريد دفن الحريّة في قاع الجغرافيا.
هناك كُتب التاريخ بالدم، لكن العالم قرأه كعنوان عابر في صحيفة، ثم أدار ظهره.
الحريّة لا تُكسَر فقط حين تُقمع، بل حين تُخَان.
حين تتحوّل من مشروع شعبي إلى صفقةٍ تُباع في مؤتمرات الخارج، حين تُختزل في زعيم أو تُغتال باسم الدين أو القومية أو الأمن.
وحين تُكسَر أنفة الحريّة، يكتب التاريخ نفسه بلونٍ واحد: الدم.
الدم لا يُزوَّر. لا يُحرَّف. لا يخضع للرقابة.
يكتب أسماء الشهداء في العراء، يصرخ في وجه التاريخ الرسمي، يفضح صفقات النفط والسلاح، ويشير إلى من صافح القاتل باسم "الواقعية السياسية".
ومع ذلك، لا تموت الحريّة. بل تعود في كلّ جيل، بجيلٍ يعرف كيف يحلم رغم الخراب، ويجرؤ على السؤال رغم الصمت، ويصرخ رغم التهديد.
جيلٌ يدرك أن الحريّة لا تُمنح، بل تُنتزع.
وفي هذا الشرق، ستبقى أنفة الحريّة تُكسَر كلّما حاولت أن تنهض. لكنها، في كلّ مرة، تكتب التاريخ من جديد، بأبجدية الدم، وبحروف لا تُمحى.
نعم... تُكسَر.
لكنها لا تموت.
بل تكتب.
تكتب التاريخ لا كما أراده المنتصرون، بل كما جرى في الحقيقة. تكتبه على الجدران، في الزنازين، على جباه الأمهات الثكالى، وعلى جثامين أولئك الذين أرادوا فقط أن يعيشوا بكرامة.
الحريّة لا تخرج من صناديق اقتراعٍ تصنعها الأنظمة على مقاسها. ولا تولد من بيانات الأمم المتحدة التي تُدير الأزمات لتستمر، ولا من وعود الساسة الذين يقايضونها بمصالحهم في الكواليس.
الحريّة تخرج من الشوارع، من حناجر الجائعين، من بندقية الثائر حين يدرك أن وجوده بحدّ ذاته خطرٌ على هندسة الخرائط القديمة.
تخرج من قُبلة الوداع الأخيرة قبل تنفيذ حكم الإعدام، من الطفل الذي يقذف حجارة على دبابة، من المثقف الذي يكتب تحت ضوءٍ أصفر في ليلة مطاردة.
تخرج... وتكتب.
تكتب ليس في كتب التاريخ الرسمي، بل في ذاكرة الشعوب.
وكلما كُسرت أنفة الحريّة مرةً، كُتب التاريخ بدمٍ أصدق.