الفيدرالية أو الخراب: لا مستقبل للدولة المركزية في الشرق الأوسط
- Super User
- كلمة اليوم
- الزيارات: 1291
بقلم: د. عدنان بوزان
لا وحدة دون عدالة... ولا عدالة دون فيدرالية
منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، والمنطقة بأسرها تتلوّى في أتون التحوّلات والانهيارات الكبرى. الشرق الأوسط لم يعد كما كان، بل تمزّقت أوصاله بين ثوراتٍ مغدورة، وحروبٍ بالوكالة، وخرائط تتفتّت على وقع الصراخ الشعبي الذي يطالب بالحرية، والكرامة، والديمقراطية. لم يكن ما جرى مجرد تغيير في الوجوه، بل زلزالاً سياسياً وأخلاقياً أعاد تشكيل البنية العميقة لأنظمةٍ بُنيت منذ قرنٍ على الاستبداد، والطغيان، وإنكار الآخر، وقمع الشعوب التي لم تدخل في القالب القومي والديني واللغوي الذي فُرض عليها قسراً.
رأينا أنظمةً تسقط، ورأينا أخرى تنهض من تحت الرماد أكثر توحّشاً. رأينا قادةً يفرّون من قصورهم، وآخرين يصعدون على أكتاف المجازر، والأسلاك الشائكة، والدبّابات. رأينا الجماهير التي هتفت للحرية تتحوّل إلى ضحايا في سجون جديدة، بلبوسٍ مختلف. فرّ الطغاة من أبواب القصور، ودخلت الطغيانيات الجديدة من نوافذ الدين والعسكرة والسلاح وسرقة الأمل. لقد تبدّلت الوجوه، لكن الاستبداد بقي، يتنقّل من عَلم إلى راية، من بزّةٍ عسكرية إلى عمامة، من خطاب قوميّ إلى خطابٍ دينيّ، والنتيجة واحدة: شعوب مكسورة، وهوية مهدورة، ووطن مسلوب.
نحن اليوم في مواجهة واقعٍ مُركّب، لكن جوهره شديد الوضوح: الأنظمة القومجية التي حكمت العراق وسوريا وغيرها من دول المنطقة، والتي بنت مشروعها السياسي على نفي الكورد، وتهميش السريان، وصهر الآشور، وإبادة الأرمن، وصهر كلّ ما هو متنوع داخل وهم "الوحدة"، قد انهارت أخلاقياً وتاريخياً، حتى وإن بقيت قائمةً عسكرياً. تلك الدول المركزية التي ادّعت تمثيل "الأمة" لم تفعل سوى تحويل المواطن إلى مشروعٍ مشتبه به، والثقافة إلى جهاز أمني، والهوية إلى قيد فولاذي. وما حلّ محلّها لم يكن بأفضل حالاً، بل أنظمة "إسلاموية" متطرّفة، ارتدت قناع الدين لتحكم باسم الله، وتقمع باسم الشريعة، وتُعيد إنتاج أدوات الاستبداد ذاتها بلغة أكثر عنفاً وأكثر غدراً.
وفي خضمّ هذه الانهيارات، ومع تصاعد المواجهات الإقليمية ـ من اشتباك إسرائيل وإيران، إلى تهديدات الولايات المتحدة، إلى الحروب الطائفية في اليمن وسوريا والعراق ولبنان ـ تُطرح علينا، كشعوب وقوى تحرّر، أسئلة لا يمكن القفز فوقها: إلى أين نحن ذاهبون؟ وما هو شكل الدولة الذي يمكن أن يضمن العيش والعدالة وحقّ تقرير المصير؟ وكيف نكسر هذه الحلقة الجهنمية التي تتجدّد كلّ عقدٍ باسمٍ جديد، ورايةٍ جديدة، لكنها تسحق الناس ذاتهم؟
بالنسبة للشعب الكوردي، فإن هذه اللحظة التاريخية لا تحتمل أنصاف المواقف ولا شعارات الانضباط ضمن حدود الدولة المركزية التي لم تكن يوماً سوى آلة سحقٍ لوجوده وحقّه وتاريخه. آن الأوان لطرح مشروع متكامل، لا يقوم على طلب الاعتراف، بل على فرضه كحقّ تاريخي، ووجودي، وسياسي. لا يمكن بعد اليوم القبول بالانتظار أو التفاوض من موقع التابع. الكورد ليسوا أقل من أي شعبٍ في هذه المنطقة، ولا يطالبون بأكثر من حقّهم الكامل والطبيعي: إدارة أرضهم، ثقافتهم، لغتهم، مواردهم، ومصيرهم السياسي، ضمن نظامٍ ديمقراطيّ اتحاديّ، يضمن العدالة والشراكة، لا التبعية والإذعان.
ولا يمكن للكورد أن يقبلوا أن يكونوا شهوداً على انهيار الدول المركزية، ثم يعيدوا الانخراط في بنائها بنفس العقلية التي أنكرتهم لعقود. ما نريده ليس حكماً ذاتياً هشاً يُمنح في غرف مغلقة، بل نظاماً سياسياً فيدرالياً حقيقياً، يَعتبر الكورد شركاء في بناء الدولة، لا رعايا فيها. نحن لا ندعو إلى الانفصال عن الجغرافيا، بل إلى إعادة تشكيل الجغرافيا على أسس الحق، والعدل، والتعدد، واحترام الخصوصيات.
وفي سوريا تحديداً، لا يمكن السكوت بعد اليوم عن سرقة الثورة وتحويلها إلى كابوس طائفي أو أداة إقليمية. لم يخرج السوريون في 2011 ليسقطوا صنم الأسد كي يُعبد صنم الجولاني. لم يضحِّ السوريون بمئات الآلاف من الأرواح، ولم يُهجَّر الملايين، ولم تُدمَّر المدن، من أجل أن يتحوّل شعار "الحرية" إلى سيفٍ آخر على الرقاب. لم تكن الثورة يوماً ثأراً من طاغية لصالح طاغية آخر، بل كانت ثورة شعبٍ أراد كرامته، وحقّه، وصوته، وأرضه، ووطناً يتّسع للجميع.
واليوم، بعد أكثر من عقدٍ من الدم والخذلان، يحقّ للسوريين أن يسألوا: هل كانت الحرية مجرّد واجهة لتبديل الأقفاص؟ هل تعني الديمقراطية أن تختار لون سجنك؟ أم أن الوقت قد حان فعلاً لإعادة تعريف الدولة؟ سوريا التي نحلم بها ليست دولة "القائد الأوحد"، ولا "الراية الأبدية"، ولا "الحزب الخالد"، بل دولة مدنية ديمقراطية، فيدرالية، تعترف بالعرب والكورد والسريان، والآشوريين، بالمسلمين والمسيحيين، بالعلمانيين والمتدينين والموحدين، بكلّ من حمل هذه البلاد في دمه، لا على لسانه فقط.
الحلّ لا يكمن في إعادة إنتاج المركز بل في تفكيكه، لا عبر التقسيم، بل عبر بناء نظام فيدرالي لا مركزيّ، يُعيد توزيع السلطة والقرار والثروة على أسس العدالة والمواطنة. الفيدرالية ليست مشروعاً طائفياً ولا خطراً انفصالياً، بل ضرورة لحماية التنوّع من الموت، ولحماية الوحدة من الاستبداد. الدولة العادلة لا تُبنى من فوق، بل من القاعدة، من الشراكة الحقيقية، من المؤسسات، من احترام خصوصية كلّ مكوّن، لا سحقه باسم "الكلّ".
نحن أمام فرصة أخيرة: إما أن نعيد إنتاج الخراب ذاته، أو أن نمتلك الشجاعة التاريخية لتفكيك المنظومة التي صنعت الخراب. الوطن الحقيقي لا يقوم على الإقصاء بل على الاعتراف، ولا على الخوف بل على الكرامة، ولا على الشعارات بل على المواطنة. لقد آن الأوان أن نقولها من دون تردّد: الوطن للجميع، والحرية للجميع، والكرامة للجميع، والدولة ليست ملكاً لطائفة، ولا لقبيلة، ولا لعائلة، بل لكلّ من يسكنها بكرامة وحق.
ولن يكون هذا ممكناً دون مشروع سياسيّ جديد، لا يقوم على التمنّي، بل على الفعل. على القوى التقدمية، والشعوب المقهورة، وكلّ من اكتوى بنار الاستبداد، أن تلتقي حول رؤية جديدة: لا لطغيان قوميّ، ولا دينيّ، ولا عسكريّ. نعم للفيدرالية، نعم للمواطنة، نعم لشراكة تحترم الإنسان، لا تستغله.
إذا كان لهذا الشرق مستقبل، فهو ذاك الذي تصنعه الشعوب، لا الأنظمة. وإذا كان لا بدّ من خريطة جديدة، فلتكن مرسومة بالحبر والحق، لا بالبارود والخوف.
إما أن نكون أحراراً، أو نبقى رماداً في محرقة الطغاة.