بقلم: د. عدنان بوزان
لا يمكن النظر إلى مستقبل سوريا من منظور أحادي يفرض نفسه بقوة السلاح أو الهيمنة الأيديولوجية، فتاريخ المنطقة يشهد بأن الدول المركزية التي قامت على الاستبداد والقمع لم تنتج سوى الدمار والتفكك والحروب الأهلية. والتجربة البعثية في سوريا والعراق خير دليل على ذلك، حيث تحولت الدولة إلى أداة بيد سلطة واحدة، تُقصي الآخر، وتصادر الحريات، وتعيد إنتاج الاستبداد بأشكال أكثر قسوة. إن رفض الفيدرالية أو اللامركزية بحجة الحفاظ على "وحدة البلاد" ليس سوى إعادة إنتاج للنمط المركزي ذاته، الذي أدى إلى الكوارث التي تعيشها سوريا منذ عقود.
الواقع السوري الحالي لا يحتمل العودة إلى نموذج الدولة الشمولية التي تسيطر عليها سلطة مركزية تحتكر القرار السياسي والاقتصادي والأمني. لقد أفرزت سنوات الحرب الطويلة واقعاً جديداً لا يمكن تجاهله، حيث تشكلت قوى محلية تمثل مجتمعاتها، وأثبتت قدرتها على إدارة شؤونها بمعزل عن السلطة المركزية في دمشق. هذا الواقع يفرض التعامل معه بعقلانية وواقعية، وليس عبر محاولات إعادة فرض الهيمنة المركزية بالقوة، لأن ذلك لن يؤدي إلا إلى مزيد من العنف والصراع والانقسام.
من يتجاهل مطالب القوى السياسية والمجتمعات المحلية بإدارة شؤونها وفق نموذج لامركزي، إنما يمهد الطريق لإعادة إنتاج الديكتاتورية تحت مسمى "الدولة الوطنية". ولكن عن أي دولة وطنية يتحدثون؟ هل هي الدولة التي تهمّش مكوناتها وتفرض عليها هوية واحدة بالقوة؟ هل هي الدولة التي ترفض التنوع وترى في الاختلاف تهديداً لسلطتها؟ لقد ثبت فشل هذا النموذج في العراق وسوريا وليبيا واليمن، حيث لم يؤدِّ إلا إلى مزيد من القهر والدمار والاضطهاد.
إن تبني نظام فيدرالي أو لامركزي لا يعني تفكيك الدولة، بل هو السبيل الوحيد للحفاظ عليها ومنع تكرار مآسي الماضي. فالفيدرالية ليست انفصالاً، واللامركزية ليست تهديداً للوحدة الوطنية، بل هي أدوات حكم حديثة أثبتت نجاحها في الدول المتعددة القوميات والمذاهب. أما الإصرار على نموذج مركزي شمولي، فهو بمثابة التمهيد لقيام دولة بوليسية لا تختلف عن الأنظمة التي أسقطتها شعوبها أو تحاول التخلص منها.
يجب أن يدرك الجميع أن التغيير الجذري في بنية الدولة السورية لم يعد خياراً يمكن التهرب منه. فالحلول الترقيعية ومحاولات إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لن تنجح. إن مستقبل سوريا يجب أن يُبنى على أسس ديمقراطية حقيقية، تضمن لجميع مكوناتها حقوقها، وتوفر آليات حكم تكفل مشاركة الجميع في اتخاذ القرار. أما أولئك الذين يرفضون هذه الحقيقة، فهم إما لا يريدون الخير لسوريا، أو يسعون لإعادة إنتاج نموذج حكم استبدادي جديد، قد يكون أسوأ مما سبق.