رحيلنا وحياتنا المشتتة: قصة التشرد والهجرة والأمل
بقلم: د. عدنان بوزان
في ذلك اليوم المشئوم من شهر أيلول، اجتاحت المدينة أنين الحزن وصرخات اليأس، كانت اللحظة الأليمة التي غيّرت مجرى حياتنا إلى الأبد. هجرنا وطناً عزيزاً، مدينتنا الجميلة التي كنا نعيش فيها سنين طويلة من السعادة والأمان. لكن ذلك اليوم، انهارت الأماني والأحلام أمام عدوان وكلاء المسلمين على الأرض.
كانت الليالي السوداء تمتزج بدموعنا وصرخات الأطفال الصغار الذين تركوا دموعهم وراءهم مع كل خطوة نخوضها نحو الشمال. القلوب كانت تنزف والأرواح تتألم، وكانت الجراح نازفة..
في أحضان الشمال تلك الليالي الباردة، حيث تتشابك النجوم فوق رؤوسنا كعقد من الأماني البعيدة، كانت لنا لحظات تأمل مُرة في رحيلنا عن مدينتنا الحبيبة، ذلك المكان الذي شهد أفراحنا وأحزاننا، ولكنه اليوم شاهد على هجرتنا القسرية.
عندما اندلعت نيران الصراع وظلم الوكلاء الجائرين يلتهمون مدينتنا الجميلة، اضطررنا لاتخاذ قرار صعب، أن نترك كل شيء ونتوجه شمالاً. كانت هجرتنا كالعصفور الذي فقد عشه، وجناحيه مكسورة. تركنا آمالنا وأحلامنا خلفنا، وجاءت الليالي الباردة لتسكن قلوبنا وتملأ أرواحنا بالحنين.
رحلتنا كانت رحلة تشرد، حيث امتزجت دموع الأمهات بصرخات الأطفال، وحملنا على أكتافنا أحلاماً مكسورة وقلوباً تنزف. كانت الجبال والوديان والسهول تشهد على مسيرتنا، وكأنها تشجب الظلم الذي ألحق بنا وتأخذ حق الدموع التي أطلقناها في سبيل البقاء على قيد الحياة.
السماء الباكية كانت تمطر علينا بغزارة، كما لو كانت تشاركنا في ألمنا وحزننا. كنا نرفع رؤوسنا نحوها، نبحث عن إشارة من الله، ربما تكون هذه الأمطار علامة على بداية رحلة جديدة، رحلة تعيد إلينا آمالنا المفقودة.
ولكن الواقع كان أصعب من ذلك، فالتشرد ليس مجرد رحلة جسدية، بل هو تشتيت لأرواحنا وأحلامنا، وفقدان لجذورنا وهويتنا. كنا كالورقة المتطايرة في عاصفة قاسية، لا مأوى لنا ولا وجهة محددة.
في أحضان أيلول، وتحت سماء كوباني الزرقاء التي لا تنتهي، شهدت مدينتي الجريحة لحظات الهجرة والتشرد الأليمة. كانت تلك اللحظة هي بداية نهاية لكل شيء، وكان الوداع الأخير لأمسياتنا السعيدة وأحلامنا المكسورة.
انطلقنا بكل ما نملك نحو الشمال. تاركين وراءنا آمالنا المنهكة وذكرياتنا الجميلة، تلك الشوارع التي رأينا فيها أول ضحكاتنا وأولى خطواتنا. تركنا كل ما كان يشير إلى حياتنا السابقة، كالأصدقاء والأحباء، واصطففنا أمام مصير مجهول.
الشمال كان مقصدنا، الشمال الذي عاش فيه أجدادنا وأبناء جلدتنا المضطهدين فكانت الزوابع تخطو خطواتنا وتتصاعد نحو السماء كأنه يوم القيامة وساعة الصفر ونحن نخطو باتجاه الشمال هاربين من الموت المؤكد في تلك اللحظات تتشابك الأيادي وتتزاحم الأقدام فوق بعضها البعض واخترقنا المدن والبلدات والقرى لحين وصل البعض منا إلى آرارات والبعض اجتازوا الحدود والدول بحثاً عن مكان الأمان والحياة الجديدة. اجتاز بعضنا البحار والمحيطات بحثاً عن مستقبل أفضل، حيث أصبحت المياه تحمل أحلامهم وآمالهم وأوجاعهم. وقسم آخر منا تركوا في عمق البحار، واحتجزوا تحت الموجات الزرقاء التي تعكس حزنهم العميق.
أما القسم الآخر فقد ناموا تحت التراب، في تلك الأماكن التي أصبحت مقابراً للذكريات، حيث تركوا أجسادهم وأحلامهم وأمانيهم لتبقى هناك إلى الأبد.
ولكن مع كل هذا التشرد والبعد، ما زلنا نحمل في قلوبنا مفاتيح بيوتنا القديمة. نحمل آلامنا وذكرياتنا كالكنوز الثمينة. وإلى اليوم، تبقى أملنا يضيء لنا الطريق نحو يوم جديد، حيث نأمل في أن تعود أمنياتنا وأحلامنا لتنمو من جديد، وأن نعود إلى وطننا المفقود، حيث يمكننا أخيراً أن نجد السلام والاستقرار الذي فقدناه.. تعبيراً عن الألم والحزن الذي يملأ قلوبنا في هذه اللحظة، لا يمكننا إلا أن نترحم على ما فقدناه. ذلك الوطن الذي تحول إلى ذكرى مؤلمة في عقولنا، والأحباء الذين تركوا أثراً عميقاً في حياتنا.
لكن على الرغم من كل هذا، نحمل في قلوبنا قوة الصمود والأمل. فالهجرة والتشرد ليست نهاية الحكاية، بل هي بداية فصل جديد في حياتنا. نعلم أنه سيأتي يوماً عندما نستعيد وطننا ونعيش فيه بسلام. سنبني من جديد بيوتنا ونصنع ذكريات جديدة، وسنجعلها تكون أجمل من أي وقت مضى.
إننا نحمل معنا أمانينا وأحلامنا كأمتعة ثقيلة على ظهورنا، ونعلم أن الطريق طويل وصعب، لكننا مستعدون للمضي قدماً بكل قوة وإصرار. وإذا كانت السماء ما تزال تبكي علينا، فلنتذكر أنها تبكي أيضاً على آمالنا وأحلامنا، وربما تمنحنا قوة إضافية للمضي قدماً.
في هذا العالم المتغير، سنبقى ملتصقين بمفاتيح بيوتنا وذكرياتنا، وسنحمل معنا قصصنا وثقافتنا وهويتنا. وعلى الرغم من كل التحديات، سنبقى متحدين وموحدين، لأننا نعلم أن الأمل هو ما يبقينا حية، وأن التشرد لا يمكن أن يطفئ نور الحياة في قلوبنا.
لكن تعلمنا أن الوطن ليس مكاناً فقط، بل هو حنين ووجدان، وأنه يمكننا أن نجد وطننا في قلوب الأحباء الذين نلتقي بهم في هذه الرحلة. تعلمنا أن القوة الحقيقية تكمن في الروح والإرادة، وأننا نملك القوة لإعادة بناء حياتنا وصياغتها بشكل جديد.
ومع كل غروب للشمس وصعود للقمر، نتذكر ماضينا ونحمله معنا في أحشائنا، ليذكرنا دائماً بمن نحن ومن أين جئنا. نحمل في أعماقنا ذكرى أمسنا وأحلامنا لغد أفضل، ونؤمن بأن يوماً ما سنعود إلى أرضنا ونعيش في سلام واستقرار.
في هذا اليوم الأيلولي، ونحن ما زلنا نحمل وطأة الحزن والهم، ندعو الله أن يعيدنا يوماً ما إلى أرضنا، إلى مكان طفولتنا، إلى ذكرياتنا الجميلة التي فقدناها. إنها رحلة تشرد لا تنتهي، ولكننا نحمل في قلوبنا الأمل بأن الغد سيكون أجمل وأفضل.
في نهاية حكايتنا الحزينة والمؤلمة، نجد أنفسنا نصبح أقوى وأعمق من ذي قبل. نحمل معنا قصتنا التي علمتنا الصمود والأمل في وجه الضياع والهجرة. إنها قصة عن الإنسانية وروحها القوية التي تستطيع التغلب على أصعب الظروف وأن نعيش في حب وسلام.
أيها الموجوع، احتفظ بصبرك، فإن بعد الصبر بشرى. في تلك اللحظات الصعبة التي تمر بها، لا تفقد الأمل، فالليل لن يبقى دائماً.
أيها الباكي في هذا الظلام، تذكر أن سوف يأتي النور فجراً. على الرغم من الدموع التي تملأ عينيك، إلا أن يوم جديد سيشرق بأمله وسعادته.
أيها المكسور، لا تفقد الثقة بالله. هل يديم الله كثرة الأحزان؟ هل يجعل الألم دائماً؟ بالطبع لا. يقولون إن بعد العسر يسرا، فلا تيأس واستند إلى إيمانك.
يا عزيز القلب، مهلاً. قد تكون الأمور صعبة اليوم، لكن الغد قد يحمل مفاجآت إيجابية. الحياة مليئة بالتحديات والابتلاءات، ولكن الصمود والثقة بالله ستقودك إلى مرافئ الراحة والفرح.
فلنتذكر دائماً أن الأوقات الصعبة تمر وأن الألم يتلاشى مع مرور الزمن. الصبر والإيمان هما مفتاح البقاء والنجاح في هذه الحياة.