تحديات الواقع السوري وآفاق مستقبل الكورد في سوريا
بقلم: د. عدنان بوزان
الوضع في سوريا، والذي يمتد عبر عقد من الزمان معمداً بدماء الأبرياء وأحلام الملايين، يظل موضع تحليل ونقاش مستمر. الحرب التي اندلعت في 2011 أخذت بعداً متعدد الأطياف، فتشابكت فيها الأيديولوجيات، وتقاطعت مصالح القوى الإقليمية والدولية، وتعقدت بمعاناة الشعب السوري الذي وجد نفسه وسط هذه المعمعة. في هذا السياق، يبرز الوضع الكوردي في سوريا كأحد أبرز النقاط التي تستحق الفحص والتأمل العميق، نظراً لما يمثله الكورد من ثقل ديموغرافي وجيوسياسي.
أولاً، يجب التأكيد على أن الشعب الكوردي في سوريا ليس مجرد طرف في الصراع، بل هو مكون أساسي من مكونات النسيج الاجتماعي السوري. يعيش الكورد في مناطق جغرافية حيوية، ولهم تاريخ طويل من المطالبة بحقوقهم الثقافية والسياسية، التي كانت محرومة في كثير من الأحيان تحت مختلف الإدارات السورية.
منذ بداية الأزمة السورية، استطاع الكورد، وعلى رأسهم حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ووحدات حماية الشعب (YPG)، أن ينظموا أنفسهم بشكل فعّال، مستغلين الفراغ الأمني لتأسيس ما يُعرف بـ "الإدارة الذاتية" في شمال سوريا. هذه الإدارة، التي أظهرت قدراً من النجاح في توفير الأمن والخدمات لسكانها، أصبحت نموذجاً يحتذى في الحكم الذاتي، ولكنها أيضاً أثارت قلق الأطراف المحلية والإقليمية على حد سواء.
التحدي الرئيسي الذي يواجه الكورد السوريين اليوم هو تحدي الاعتراف السياسي. على الرغم من إسهاماتهم في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجهودهم في استقرار المنطقة، لا يزال هناك تردد دولي وإقليمي في الاعتراف الرسمي بالإدارة الذاتية. الدول المجاورة، مثل تركيا، تعارض بشدة توسع النفوذ الكوردي على حدودها، خوفاً من تأثيره على كوردها الخاصين. من جهة أخرى، النظام السوري يرى في الحكم الذاتي تهديداً لسيادته ووحدة أراضي الدولة السورية، في حين تظل المواقف الدولية، خاصة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، متأرجحة بين الدعم التكتيكي والحذر الاستراتيجي.
في هذا الإطار، يتعين على القيادة الكوردية أن تعمل بمرونة سياسية ودبلوماسية لتعزيز مكانتها. من الضروري أن تتبنى الأحزاب الكوردية رؤية سياسية شاملة تتجاوز الإطار العسكري والأمني، وأن تسعى لبناء علاقات متوازنة مع جميع الأطراف السورية والقوى الإقليمية والدولية. كذلك، يجب على الكورد أن يظهروا أن نموذج حكمهم يمكن أن يكون جزءاً من حل شامل للأزمة السورية، يراعي التنوع الإثني والديني ويحافظ على وحدة البلاد.
إضافةً إلى ذلك، من المهم تعزيز النظام الديمقراطي داخل المناطق الكوردية نفسها. يجب أن تكون الإدارة الذاتية مثالاً للشفافية، العدالة، والمساواة، مع إيلاء اهتمام خاص لحقوق الأقليات والمرأة. العمل على تعزيز الديمقراطية سيعطي الكورد السوريين مصداقية أكبر على المستويين الوطني والدولي، ويشكل أرضية صلبة للتفاوض على مستقبلهم.
أخيراً، يجب على المجتمع الدولي أن يلعب دوراً أكثر فعالية في حماية الكورد وضمان حقوقهم ضمن أي تسوية سياسية مستقبلية في سوريا. الاعتراف بالجهود الكوردية ودعمها ليس فقط من باب التحالفات المؤقتة، بل كجزء من التزام أطول أمداً بالعدالة والسلام الدائمين في المنطقة.
خلاصة، يمثل الوضع الكوردي في سوريا تحدياً معقداً وفرصة ثمينة في آن واحد. إن الجمع بين الواقعية السياسية والالتزام بالمثل العليا يمكن أن يفضي إلى مستقبل أفضل ليس فقط للكورد بل لجميع السوريين.
آفاق الحل:
آفاق الحل للقضية الكوردية في سوريا تتطلب تقارباً وتفاهماً على عدة مستويات، سواءً كانت محلية، إقليمية أو دولية. فيما يلي بعض الخطوات التي يمكن اعتبارها أساسية لتحقيق حل شامل ومستدام:
1. الحوار الوطني الشامل: الخطوة الأولى والأساسية هي إشراك الكورد في حوار وطني شامل يضم جميع مكونات المجتمع السوري. هذا الحوار يجب أن يهدف إلى التوصل إلى تفاهم مشترك حول مستقبل سوريا كدولة تعددية تحترم جميع الهويات والثقافات وتضمن حقوق الجميع بما فيها الحقوق الثقافية والسياسية للكورد.
2. الإصلاح الدستوري والقانوني: إصلاح الدستور السوري بما يضمن تمثيل الكورد بشكل عادل في جميع مؤسسات الدولة، وكذلك تأمين الحماية القانونية لحقوقهم الثقافية واللغوية. يمكن النظر في إنشاء نظام فدرالي أو نظام حكم ذاتي موسع يوفر للكورد درجة من الإدارة الذاتية داخل الدولة السورية.
3. ضمان الأمن والاستقرار: يجب تأمين المناطق الكوردية وحمايتها من أي تهديدات خارجية أو داخلية، وذلك بالتعاون مع قوات الأمن الكوردية والقوات السورية. كما يجب العمل على إزالة أي مظاهر للتطرف وتأمين البيئة المناسبة لعودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم.
4. التعاون الإقليمي والدولي: ينبغي على الكورد تعزيز علاقاتهم بالدول الإقليمية، خاصة تركيا والعراق، بما يضمن التعايش السلمي ويحمي حقوق الأقليات. كما يجب على المجتمع الدولي لعب دور أكثر فاعلية في دعم حقوق الكورد ضمن إطار الحل السياسي للأزمة السورية.
5. تعزيز الديمقراطية والتنمية المحلية: تشجيع الديمقراطية وتعزيز المشاركة السياسية للكورد في إدارة شؤونهم المحلية، وتقديم الدعم اللازم لتطوير البنية التحتية والخدمات الاجتماعية في المناطق الكوردية، مما يسهم في رفع مستوى الحياة ويعزز الاستقرار المحلي. تحسين الوضع الاقتصادي والتعليمي والصحي في المناطق الكوردية يساعد في توفير بيئة ملائمة للتنمية السلمية ويقلل من الاحتقانات الاجتماعية والسياسية.
6. حماية حقوق الإنسان والأقليات: ضمان حماية حقوق الإنسان لجميع المواطنين، بما في ذلك الكورد، عبر إجراءات قضائية وقانونية واضحة وفعّالة. تعزيز دور المؤسسات الرقابية والمستقلة في حماية الحقوق والحريات العامة يعزز الثقة بين الكورد والمجتمعات الأخرى داخل سوريا.
7. المشاركة في إعادة الإعمار: تأكيد دور الكورد في جهود إعادة إعمار سوريا، ليس فقط في المناطق الكوردية ولكن كجزء من الجهد الوطني الشامل. هذا يتضمن الحصول على نصيب عادل من الموارد والاستثمارات اللازمة للإعمار والتنمية المستدامة.
8. بناء الثقة: العمل على بناء الثقة بين الكورد والمجموعات العرقية والدينية الأخرى في سوريا من خلال مبادرات مشتركة تهدف إلى السلام والتعايش السلمي. مثل هذه المبادرات يمكن أن تشمل برامج تعليمية وثقافية مشتركة تعزز الفهم المتبادل والاحترام المتبادل.
9. التوافق الدولي: العمل على حشد دعم دولي واسع النطاق لأي اتفاقيات تنبثق عن الحوار السوري الداخلي، وضمان أن تكون هذه الاتفاقيات مدعومة بالضمانات الدولية التي تحمي تنفيذها واستدامتها.
10. المرونة والابتكار في التفاوض: التزام الكورد بموقف تفاوضي يتسم بالمرونة والابتكار، قادر على التكيف مع التحديات الجديدة واستغلال الفرص التي يمكن أن تظهر خلال عملية التفاوض، مع الحفاظ على الثوابت الوطنية والحقوق الأساسية.
باتباع هذه الخطوات، يمكن أن يسهم الكورد في بناء مستقبل سوريا الجديدة، وهو مستقبل يقوم على العدالة، التعددية، والاحترام المتبادل، مما يضمن مكانة الكورد كجزء لا يتجزأ من النسيج الوطني السوري.
آفاق الحل الوطني:
آفاق الحل الوطني للأزمة السورية، بما في ذلك مسألة الكورد، تحتاج إلى مقاربة شاملة تعالج الجذور العميقة للصراع وتضع أسساً لمستقبل مستدام ومستقر لكل السوريين. إليكم عدة نقاط رئيسية تشكل محاور أساسية لهذه الآفاق:
1. تشكيل حكومة انتقالية: الخطوة الأولى نحو الحل الوطني يمكن أن تكون تشكيل حكومة انتقالية تضم ممثلين من مختلف الأطياف السياسية والعرقية والدينية في سوريا. يجب أن تكون هذه الحكومة مهمتها الرئيسية هي إعداد البلاد لانتخابات حرة ونزيهة وتأسيس دستور جديد يحترم التنوع ويضمن العدالة للجميع.
2. إصلاحات دستورية وقانونية: من الضروري إجراء إصلاحات دستورية تعكس الطبيعة المتعددة الأعراق والأديان للمجتمع السوري. هذا يتضمن تقديم ضمانات لحقوق الأقليات وتمكينهم من المشاركة الكاملة في الحياة العامة والسياسية. كذلك، يجب أن يتضمن الدستور ضمانات للحريات الأساسية واستقلال القضاء.
3. تعزيز المصالحة الوطنية: يجب تعزيز عملية المصالحة الوطنية التي تشمل جميع الأطراف والتي تعالج الأضرار التي سببها الصراع، بما في ذلك الانتهاكات ضد الكورد وغيرهم من الأقليات. يجب أن تكون هناك جهود حقيقية للتعافي من الصدمات وإعادة بناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع.
4. دعم الحكم المحلي واللامركزية: النظر في مسألة الحكم المحلي واللامركزية كجزء من الحل الوطني يمكن أن يوفر حلاً للمطالب الإدارية والثقافية للكورد وغيرهم من المجموعات. هذا يشمل تفويض السلطات إلى الحكومات المحلية وتمكينها من إدارة شؤونها بفعالية أكبر.
5. إعادة الإعمار والتنمية المستدامة: إعادة إعمار سوريا يجب أن تكون شاملة ومستدامة، تأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الخاصة لجميع المناطق والمجموعات. تركيز الجهود على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تحسين البنية التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية كالتعليم والرعاية الصحية، سيساهم في استقرار البلاد ويقلل من الاحتقانات.
6. ضمان العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم: لضمان عدم تكرار الأخطاء الماضية، من الضروري إنشاء آليات للعدالة الانتقالية تتضمن محاكمات عادلة للأشخاص المتورطين في جرائم حرب وانتهاكات حقوق الإنسان. يجب أن تكون هذه العمليات شفافة وأن تشمل شهادات من الضحايا والناجين.
7. تعزيز التعاون الإقليمي والدولي: لمواجهة التحديات المعقدة في سوريا، من الضروري الاستفادة من الدعم الإقليمي والدولي. تعاون سوريا مع جيرانها ومع المجتمع الدولي يمكن أن يعزز الأمن الإقليمي ويساعد في الحصول على الدعم الاقتصادي والتقني اللازم لإعادة الإعمار.
8. دعم العودة الطوعية للنازحين واللاجئين: توفير ظروف مناسبة وآمنة لعودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم بطريقة طوعية وآمنة يجب أن يكون أولوية. هذا يشمل تأمين البيوت والأراضي وتقديم تعويضات لمن فقدوا ممتلكاتهم.
9. إشراك جميع الأطراف في مستقبل سوريا: من الضروري أن تشمل العملية السياسية جميع الأطراف المعنية وأن تستجيب لمطالبهم بطريقة متوازنة. هذا يضمن شعور جميع المكونات بالمسؤولية تجاه بناء الدولة ويقوي النسيج الاجتماعي الوطني.
10. التركيز على التعليم والثقافة: الاستثمار في التعليم والثقافة يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في تعزيز الوعي الوطني وتحفيز التقدم. تعزيز التفاهم الثقافي والاحترام المتبادل بين مختلف الأطياف يسهم في خلق مجتمع موحد ومتماسك.
بتطبيق هذه المبادئ، يمكن لسوريا أن تمضي قدماً نحو مستقبل يسوده السلام والاستقرار، ويحقق التطلعات والآمال لجميع أبنائها.