الشتات الكوردي: رحلة الاضطهاد والتحدي في بناء الهوية الوطنية
بقلم: د. عدنان بوزان
يمتد تاريخ الشتات الكوردي عبر قرون، مشكلاً جزءاً مهماً من تاريخ الكورد وتفاعلهم مع الأحداث الكبرى في الشرق الأوسط وما وراءه. تعددت أسباب الشتات بين السياسية والدينية والاقتصادية، وأسفرت عن انتشار الكورد في مختلف بقاع العالم، حيث شكلوا مجتمعات مستقرة وتركوا بصمات مؤثرة في الحضارات المختلفة التي استقروا فيها.
بدأت إحدى الموجات الكبرى من الشتات الكوردي مع انضمامهم إلى جيش صلاح الدين الأيوبي خلال الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر. كان هذا الانضمام جزءاً من الجهود الدفاعية لتحرير الأراضي المقدسة من السيطرة الصليبية، وقد أدى إلى انتقال أعداد كبيرة من الكورد إلى مصر والشام. لاحقاً، مع توسع الدولة الأيوبية، استقر العديد من الكورد في هذه المناطق وساهموا في الحياة السياسية والعسكرية والثقافية للمنطقة.
في العصور اللاحقة، خصوصاً خلال حكم الدولة العثمانية، تعرض الكورد لسياسات قمعية وتعسفية أدت إلى موجات جديدة من النزوح. فرضت السلطات العثمانية قرارات نفي جماعية على الكورد كجزء من سياساتها الأمنية والإدارية، مما أدى إلى انتشارهم في مناطق بعيدة عن موطنهم الأصلي. هذه السياسات ساهمت في تشكيل تجمعات كوردية كبيرة في مناطق مثل الأناضول والبلقان.
في العصر الحديث، شهد الكورد هجرات جديدة بسبب الأوضاع السياسية المضطربة في مناطقهم الأصلية. ففي القرن العشرين، كانت الحروب والمجازر والتطهير العرقي في تركيا والعراق وسوريا وإيران عوامل رئيسية دفعت الكورد للبحث عن ملاذات آمنة في الخارج. على سبيل المثال، في العراق، أدت حملات الأنفال السيئة السمعة في الثمانينيات إلى نزوح آلاف الكورد إلى الدول المجاورة وأوروبا.
في مصر، يُقدر عدد السكان من أصول كوردية بما يتراوح بين مليونين إلى خمسة ملايين نسمة. من بين الشخصيات الكوردية التي تركت بصماتها في تاريخ مصر الحديث نجد محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة، وعائلة الخديوي بأكملها، والشيخ محمد عبده، وأمير الشعراء أحمد شوقي، والممثل محمود المليجي. هؤلاء الأفراد وغيرهم ساهموا بطرق مختلفة في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية في مصر.
في السودان، جاء الكورد مع حملة صلاح الدين الأيوبي بقيادة شقيقه توران شاه في عام 1772 ميلادية، ويقدر عددهم الآن بحوالي 80 ألف نسمة. يتمركز الكورد في غرب السودان في ولاية كردفان ومدينة قضاريف وأم درمان وكسلا. أبرز الشخصيات الكوردية في السودان تشمل علي محمد الكردي الذي وصل إلى رتبة فريق في الجيش السوداني، والصحفي وجدي الكردي.
أما في الأردن، فقد استقر الكورد في عدة موجات، بدءاً من عهد صلاح الدين الأيوبي ومع القوات العثمانية، وصولاً إلى النزوح من فلسطين خلال النكبة. يعيش الكورد اليوم في مناطق مثل عمان وإربد والسلط والزرقاء، وقد برز منهم شخصيات مهمة مثل سعد جمعة، رئيس الوزراء الأسبق، وصلاح جمعة، وزير الزراعة والتموين، والدكتور يوسف ذهني، وزير الشؤون الاجتماعية.
في لبنان، يعود وجود الكورد إلى العهد العثماني، حيث استقرت عائلات كوردية بارزة مثل المعنيين والجانبلاطيين والمرعبي. رغم الاعتراف المحدود بهم في الدستور اللبناني، فإنهم يشكلون جزءاً لا يتجزأ من المجتمع اللبناني.
في أوروبا، استقبلت الدول الأوروبية موجات من الكورد الباحثين عن الأمان والاستقرار منذ الستينيات. كانت الظروف الاقتصادية والسياسية في تركيا والعراق من الدوافع الرئيسية وراء هذه الهجرات. في الآونة الأخيرة، أدت الحرب السورية إلى نزوح جديد للكورد إلى أوروبا هرباً من العنف والصراع.
تتواجد مجتمعات كوردية كبيرة في الاتحاد السوفيتي السابق، حيث استقروا في مناطق القوقاز وآسيا الوسطى. بعد المجازر التي ارتكبت بحقهم من قبل الصفويين والأتراك، لجأ الكورد إلى الاتحاد السوفيتي بحثاً عن الأمن والاستقرار. في عهد لينين، تم الاعتراف بحق الكورد في الحكم الذاتي في كوردستان الحمراء، إلا أن هذا الحكم لم يستمر طويلاً بسبب سياسات ستالين القمعية.
في باكستان، يحتفظ الكورد بوجود مهم، حيث تقدر أعدادهم بأكثر من 100 ألف نسمة. يحتفل الكورد الباكستانيون بعيد نوروز ويحيون ذكرى مجزرة حلبجة، معبرين عن ارتباطهم القوي بثقافتهم وتراثهم.
ختاماً، يمكن القول إن الشتات الكوردي نتج عن عدة عوامل رئيسية، منها انضمامهم إلى جيش صلاح الدين الأيوبي، والسياسات القمعية للحكومات التي حكمت أراضي كوردستان. أدى هذا الشتات إلى ابتعاد الكورد عن وطنهم الأصلي وموطن ولادتهم، مما غرس جروحاً عميقة في قلوبهم. رغم ذلك، فإن الكورد في الشتات ساهموا بشكل كبير في الحضارات التي استقروا فيها، وأثروا فيها بطرق متعددة، مما يعكس مرونة وقوة الهوية الكوردية في مواجهة التحديات عبر التاريخ.