بقلم: د. عدنان بوزان
في زوايا الخرائط، لا تنام الدول، بل تتقلّب كما تتقلب النار تحت رماد الجغرافيا. ومن يراقب الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، يُدرك أن ما يحدث ليس سلسلة أزمات متفرقة، بل مشروع طويل النفس، يُصاغ على مهل، وبلغة لا يفهمها إلا صُنّاع الخرائط الكبار: لغة التفكيك، ثم إعادة البناء وفق نموذج السيطرة متعددة الطبقات.
فالعالم لا يُدار بخطابات الأمم المتحدة، بل بتوازنات المصالح وشروط القوة. ومصير الشرق الأوسط — بكل فسيفسائه المذهبية، والإثنية، والسياسية — قد حُسم منذ أن تحولت الخريطة إلى "مسألة هندسية" تُبتّ في غرف العمليات الاستراتيجية.
- المشروع الخفيّ خلف الكلمات:
منذ إعلان كوندوليزا رايس عن "الشرق الأوسط الجديد"، بدا واضحاً أن المقصود ليس مجرد تحالفات أو تسويات دبلوماسية، بل إعادة ضبط المجال الجغرافي والسياسي للمنطقة وفق محددات جديدة. لم يكن الهدف فقط تغيير الأنظمة، بل تفكيك النسيج الداخلي للدول، وتحويل الكيانات السياسية إلى وحدات مرنة: قابلة للدمج، أو التفتيت، أو التحييد.
الغاية لم تكن نشر الديمقراطية كما رُوّج، بل خلق فراغات قابلة للملء، وهويات قابلة للإدارة، ونزاعات قابلة للتوظيف. فأمريكا لا تدخل أرضاً إلا حين تتأكد أن بنيتها الاجتماعية قابلة للتجزئة، وأن مركز القرار فيها قد تآكل، وأن القواعد السياسية القديمة لم تعد صالحة للاستعمال.
- ثلاث ركائز وجبَ إزاحتها:
أدرك مهندسو الجيوبوليتيكا في واشنطن وتل أبيب — بحسهم الاستراتيجي العميق — أن ثلاث قوى تشكّل عقدة أمام هذا المشروع. قوى لم تكن متحالفة، لكنها متجذرة في وعي شعوبها، ولها نفوذ عابر للحدود.
- النظام السوري: من الدولة إلى البنية المجوّفة
بغضّ النظر عن التقييمات الأخلاقية للنظام السوري، فقد كان — في معادلات القوة الإقليمية — مركز ثقل ممانع لأي مشروع يروم تفكيك الهوية العربية، أو تحويل سوريا إلى ممرّ لإعادة تشكيل التحالفات.
لكن الحرب التي فُرضت على البلاد، وتحوّل الصراع إلى مسرح لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، جعلت من سوريا مختبراً للتدمير البنيوي: تدمير المجتمع، والهوية، والبنية التحتية، وحتى الذاكرة الجماعية.
وحين انهارت الدولة، لم يُترك الفراغ لمصادفة الزمن، بل جرى ملؤه بتوليفات هشة من سلطات الأمر الواقع، وميليشيات، وتحالفات مؤقتة. تحوّلت سوريا من "دولة" إلى "أرض مُدارة من الخارج"؛ كل شيء فيها يُصاغ خارجها: من قرارات الحرب، إلى ملامح الدستور.
- النظام الإيراني: الشوكة المزدوجة في خاصرة المشروع
إيران، بمزيجها من الأيديولوجيا الدينية والنفَس الإمبراطوري، شكّلت صداعاً مستمراً في عقل الاستراتيجي الأمريكي. فهي لا تتعامل مع الملفات من منطق الدولة القُطرية فحسب، بل من منطق "الأمة الرسالية" التي ترى نفسها وصيّة على توازنات المنطقة، وخصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
لكن المشروع الأمريكي–الإسرائيلي لم يكن غافلاً عن ذلك. فقد جرت محاصرة إيران اقتصادياً، ثم دبلوماسياً، ثم إعلامياً، قبل أن يُفتح الباب لتفجير الداخل: احتجاجات، توترات، نزاعات مذهبية، واستثمار في الأزمات الاجتماعية والبيئية.
الهدف ليس إسقاط النظام ببساطة، بل خلق "إيران جديدة"، تتخلى عن طموحاتها النووية والإقليمية، وتدخل في نادٍ سياسي يخدم — ولو مرحلياً — إعادة ضبط الشرق الأوسط.
هذه "الإيران المفيدة" ليست دولة ديمقراطية، بل دولة منكمشة على ذاتها، تتخلى عن فكرة التمدّد، مقابل البقاء.
- النظام التركي: الحليف الذي يقترب من حافة "الخيانة الجغرافية"
تركيا، التي نشأت كدولة علمانية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، ثم تحوّلت تدريجياً إلى مشروع ذي أبعاد عثمانية رمزية تحت قيادة أردوغان، أصبحت قوة ضاربة في قلب الشرق الأوسط.
ورغم كونها عضواً في الناتو، لم تكن دائماً متماهية مع المصالح الأمريكية، وخصوصاً في ملفات الشمال السوري، الكورد، والطموح التركي في آسيا الوسطى.
لكن المشروع الأمريكي لا يحتمل لاعبين مستقلين. تركيا — التي استفادت من زلازل "الربيع العربي" لمدّ نفوذها — أصبحت في نظر الغرب "قوة يجب تطويعها"، لا بالانقلابات، بل بالحروب الناعمة، وبالضغط الاقتصادي، واستنزاف الداخل السياسي، وربما حتى تفجير البنية العرقية (الكوردية، العلوية، القومية).
الهدف هو خلق "تركيا ما بعد أردوغان"، لا بوصفها دولة وظيفية فقط، بل بوصفها فاعلاً محايداً، يتخلى عن طموحه الإمبراطوري، ويعود إلى حجمه "الطبيعي" ضمن توازنات لا يرسمها هو.
- بين المصالح والمصائر: من يرسم الشرق الأوسط؟
السؤال ليس: "من التالي؟"، بل: "من الذي يملك خريطة العالم الجديد؟". فالصراع لم يعُد على الأرض فقط، بل على المعنى: معنى الدولة، ومعنى الاستقلال، ومعنى الشعوب.
في الشرق الأوسط، كل دولة أصبحت مشروعاً لإعادة التأسيس، وكل نظام هو بقايا عهد لم يعُد مرغوباً فيه، وكل مقاومة تُصنَّف بوصفها تهديداً وجودياً.
لكن، هل يعني ذلك نهاية الشعوب؟ لا. فالشعوب — برغم كل محاولات القضم — لا تُبنى فقط بالحدود، بل بالذاكرة. والذاكرة التي تمر من النار، تغدو أكثر صلابة.
قد يُعاد تشكيل الدول، لكن لا يمكن إعادة تشكيل الوعي بسهولة. وهذا ما لم يفهمه الاستراتيجيون بعد.
في الختام، الشرق الأوسط لا يُراد له فقط أن يتغير، بل أن يُمحى ويُعاد رسمه من جديد، بأيدٍ لا تنتمي إليه، ولا تفهم روحه. ما يجري ليس "تقدّماً نحو الديمقراطية"، بل انسحاباً عميقاً من مفهوم السيادة، ومن حضور الشعوب في صناعة مصيرها.
المشروع الذي تقوده واشنطن وتل أبيب مشروعٌ طموح، لكنه محكوم بالتناقضات. فالعالم لم يعُد يتحمل مشاريع كبرى تُدار بلغة السلاح وتفكيك الهويات.
قد ينجح المشروع مرحلياً. وقد تُسقط الأنظمة. وقد تُستنزف الدول. لكن ما لا يمكن قتله هو السؤال:
من نحن؟ ولماذا يُعاد تشكيلنا بأيدٍ لا تعرفنا؟
الشرق الأوسط الجديد ليس قدراً. بل معركة وعي.
وسباقٌ بين من يصنع الخرائط... ومن يرفض أن يكون مجرد خطّ فيها.