بقلم: د. عدنان بوزان
في زحمة الحماسة القومية والانفعالات الجماهيرية المتدفقة على منصات التواصل الاجتماعي، تنزلق كثير من الشعوب إلى لعبة الرموز، محاولةً تأويلها أو احتكارها، كما لو أن الشعارات والتاريخ مادة طيّعة يمكن صوغها بحسب الأهواء الراهنة. ولعلّ مثال "النسر" – الذي تحوّل فجأة إلى محور جدل قومي وسياسي – يكشف عن عمق الأزمة الثقافية والهوياتية التي تعاني منها بعض الأنظمة العربية، حين تحاول أن تعيد إنتاج رموزٍ تاريخية لم تكن يوماً من ميراثها، بل تنتمي إلى سياق حضاري وتاريخي مختلف، وتحديداً إلى السياق الكوردي الأيوبي الذي مثّله صلاح الدين الأيوبي.
النسر، بحسب ما تقوله كتب التاريخ، لا منشورات فيسبوك، لم يكن يوماً رمزاً عربياً، ولم يرد ذكره في رايات أو شعارات القبائل أو الدول العربية القديمة. فلا الأمويون اتخذوه شعاراً، ولا العباسيون، ولا الفاطميون، ولا حتى الدولة العثمانية في مراحلها التي سعت إلى أسلمة التاريخ. النسر – وبوضوحٍ لا لبس فيه – كان رمزاً استخدمه القائد الكوردي صلاح الدين الأيوبي، مؤسس الدولة الأيوبية، وهو الذي قاد جيوش المسلمين لتحرير القدس، لا باسم العروبة، بل باسم الإسلام، وبهوية قومية واضحة لم يُخفها، بل تجلّت في تركيبته العسكرية والإدارية.
راية صلاح الدين كانت صفراء، يتوسطها نسر شامخ، يحاكي في رمزيته شمس الأديان الشرقية القديمة، وتحديداً المعتقدات اليزدانية التي حملها الشعب الكوردي في تقاليده الروحية القديمة، حيث تعبد الشمس باعتبارها مظهراً للضوء الإلهي، وللطاقة الخلاقة، ورمزاً للعدل. هذا اللون الأصفر لم يكن اعتباطياً، ولا اختيار النسر كان زينةً شكلية، بل لأن النسر، في الثقافات الشرقية، هو حارس الجبال، ورمز السيادة، والقوة، والعلوّ، والرؤية البعيدة. وقد ثُبّت على قلاع الدولة الأيوبية كدلالة على سلطتها واستمراريتها، لا بوصفه رمزاً لنزعة قومية بعينها.
لكن ما يحدث اليوم هو محض اغتصاب رمزي. فمحاولة "تعريب" النسر، وإدخاله ضمن قائمة الرموز القومية العربية، تُعدّ تعدّياً على الذاكرة، وعلى الخصوصيات الثقافية للشعوب. ليس لأن العرب لا يحق لهم اتخاذ النسر شعاراً، بل لأن ما يراد فعله هو محو الأصل وإعادة إنتاج الأسطورة بطريقة معكوسة. تستخدم التقنيات الحديثة اليوم في تصميم الشعارات وجعلها تبدو وكأنها متجذّرة في تاريخ الأمة العربية، لكن التقنية لا تصنع الحقيقة، والتصميم الرقمي لا يمنح الشرعية التاريخية. فلو كان لكل رسمٍ أن يصبح تراثاً، لما بقي للذاكرة أي وزن، ولصار الفوتوشوب مؤرخاً بدلاً من ابن خلدون.
إن الأخطر من هذا كلّه هو تحويل الهوية إلى سوق، يعرض فيها كل ما يمكن مصادرته من رموز، في سبيل إيهام الشعوب بأن هناك "مجداً" قديماً يبعث من جديد. لكن الحقيقة أن هذا المجد – إن وُجد – لا يستعاد بهذه الطريقة. المجد لا يفبرك، ولا يختلق، ولا يسرق من غيره. وما لم تكن للأمة جذور حقيقية في رموزها، فإنها ستظل في حالة اقتباس دائم، تسير في ظلّ الآخرين، وتتنازع على فتات الرمزية كما تتنازع القوى على فتات الجغرافيا.
لقد كان الأجدر بمن يسعون إلى استخدام هذا الشعار أن يعترفوا بأصله، وأن يقدروه ضمن سياقه التاريخي، وأن يفتخروا بأن قائداً غير عربي – كوردي الأصل – هو من رفع هذه الراية، وقاد المسلمين إلى النصر، وأن يدركوا أن لا تناقض بين الانتماء القومي والقيادة الإسلامية. لكن المشكلة لا تكمن فقط في الجهل بالتاريخ، بل في الحاجة النفسية لاختراع تاريخ بديل، لا لشيء سوى لإخفاء العجز المعاصر، وتزيين المشهد الرمزي بطلاء زائف من الماضي.
إن الشعوب التي تنكر على غيرها رموزها، أو تحاول طمس معالم تلك الرموز ونسبتها لنفسها، إنما تعلن إفلاسها الرمزي، تماماً كما تعلن الأنظمة فشلها حين تركن إلى ماضٍ ملفق بدل صناعة مستقبل صادق. فالقومية لا تبنى على السرقة الرمزية، بل على الاعتراف المتبادل، واحترام الذاكرة الجمعية للأمم الأخرى.
لقد بات من الضروري اليوم أن نعيد النظر في علاقتنا بالتاريخ والرموز، لا باعتبارها شعارات للاستهلاك، بل كبنى ثقافية يجب احترامها. فكما لا يحق للأوروبي أن يدّعي أن الهلال رمزٌ مسيحي، لا يحق للعربي أن يدّعي أن النسر رمزٌ قومي عربي. هذا النسر الذي وُلد على قلاع الأيوبيين، وحلّق في سماء الشرق الأوسط بشموخ كوردي، يستحق أن يذكر باسمه، لا أن يستبدل بحكاية أخرى.
إن من يخشى الاعتراف بالأصل، هو من لا يملك الثقة في هويته. ومن يحاول إعادة تشكيل التاريخ ليناسب أيديولوجيته، هو من يخشى مواجهة الحاضر. أما الشعوب الحيّة، فهي تلك التي تُنصف غيرها قبل أن تفاخر بنفسها.