بقلم: د. عدنان بوزان
في عفرينَ...
كانتْ أمي تُمسِّدُ جدائِلَ القمحِ على جبينِ الجبل
وفي كوباني...
كان أبي يُرمِّمُ الشمسَ بيدِهِ العرجاءِ
وفي الحسكةِ...
كانتْ أختي تُطعِمُ العصافيرَ من رغيفِ القصيدة...
لكنَّ الريحَ جاءتْ بلا موعدٍ
ونهشتِ الترابَ...
والحرفَ...
والصوتَ...
والظلَّ.
يا وطني...
أيُّها المتكوِّمُ كجرحٍ في أرشيفِ الغزاة
كقصيدةٍ بَكاها الشاعرُ قبلَ أن يكتُبَها
كأغنيةٍ تاهتْ في المنفى قبلَ أن تولد.
هل تسمعني؟
أنا ابنُ الغيمِ المذبوحِ في أعالي الذاكرة
أنا الدمعةُ التي تيبّستْ في عيونِ المخيمات
أنا الجسدُ الذي حاولَ أن يعبرَ البحرَ...
فغرقَ في ظله، لا في الماء.
أنا الريحُ...
حين تنطفئُ الريح.
لا تسألْ عنّي في الجغرافيا..
فأنا مقيمٌ في حروفِ الفقد
ساكنٌ في المنافي التي بلا نافذة
نازحٌ في الحبر..
لاجئٌ إلى اللغة..
ومُطارَدٌ من كلِّ الجهاتِ... حتى في القصيدة.
في درعا...
صرخَ الولدُ الأولُ
فارتجَّتْ مجرّاتُ الخوفِ في قلبِ السلطان
وفي مدينةٍ كانت تُغنّي للحياة...
أُخمدتِ القصائدُ تحتَ الأنقاض.
وفي دمشق...
باعتِ الشوارعُ دمَها لتشتري صمتاً
وبقيَ الياسمينُ معلَّقاً بينَ بلاغٍ رسميٍّ
ويدٍ تُلوّحُ من تحتِ الركام.
لا جدوى من نشرِ الشعرِ على الحبال
ولا من غسيلِ الضميرِ بماءِ الأممِ المتّحدة
فالعالَمُ...
أعمى إلّا عن حقولِ النفط
وأبكمُ... إلّا في صراخِ الدولار.
أقولُ لكم:
الشِّعرُ لا يُرمِّمُ المنازل
ولا يُعيدُ الطفلةَ التي نامتْ على حجرٍ مفخَّخ
لكنَّهُ...
يمنحُ للدمعةِ حقَّها في أن تبوح
وللظلِّ وطناً، حينَ ينفيهِ الضوء.
في القامشلي...
كنتُ أمشي على رؤوسِ الذاكرة
كلُّ حجرٍ فيهِ ناي
وكلُّ زقاقٍ تراتيلُ موت.
وفي سري كانيه...
رأيتُ الحمامةَ تُهاجرُ بخيطِ دمٍ
وتسقطُ في فمِ بندقيةٍ بلا وجدان.
أيُّها الشعرُ...
كُنْ لي قارباً حينَ يعلو الطوفانُ في حلقي
كُنْ لي حبلاً أشنقُ بهِ صمتي
كُنْ لي منفىً لا يُشبِهُ هذا المنفى.
فالوطنُ...
ليسَ تلكَ الخارطةَ التي يُلوِّحُ بها السياسيُّون
بل دمعةُ أُمٍّ حينَ تفتحُ بابَ الغيابِ ولا تجدْ أحداً
هو خبزُ الطفلِ المعجونِ بالخوف
هو صرخةُ اللاجئِ حينَ ينساهُ البحر.
في صيدنايا...
تتوضَّأُ المقصلةُ كلَّ صباحٍ بدمِ شاعر
وتسألُ الشمعةُ عن ليلٍ لا ينتهي.
أيُّها العالمُ...
أيُّها العاهرُ المتأنِّقُ في ثيابِ المبادئ
لماذا تُحضنُ الشامَ حينَ تنزف
ثم تُقايضُها بالسكوتِ عن قاتلها؟
لماذا تُهدي لها باقاتِ الشعرِ في النهار
ثم تُهدي لها في الليلِ قنبلةً "ذكية"؟
نحنُ لا نطلبُ منكم أكثرَ من كلمةٍ صادقة
من ضوءٍ صغيرٍ لا يُباعُ في المزاد
من ظلٍّ لا يُغتصب.
في كوباني...
كُنتُ أكتُبُ على جدرانِ المدرسة:
"الحريّةُ لا تموت"،
فماتتِ المدرسة، وبقيَ الحرفُ...
يحرسُ خوفي في المنفى.
أنا... ابنُ الحُلمِ
الذي لم يكتملْ
والقصيدةِ التي لم تُنشد
والوطنِ الذي انقسمَ بينَ خريطةٍ
وبينَ ذاكرةٍ مثقوبة.
فلتشهدوا أيُّها الغيمُ...
أنَّا مشينا حفاةً في ليلِ الخراب
وكتبْنا أسماءَ مدنِنا على الأحذيةِ المهترئة
وقلنا للياسمينِ: لا تخفْ
فالقصيدةُ القادمة... ستكونُ وطناً.