بقلم: د. عدنان بوزان
أتعلمين، يا عزيزتي...
إن أكثر ما يُرعبني في هذه الحياة، ليس أن يُقعدني المرض، أو أن تهجرني الجموع، أو أن يأتيني الموت متخفّياً بين رعشة بردٍ أو غفوة نوم...
بل أن أكتشف، ذات صباحٍ متأخّر، أنني قضيت عمري لا أعيش، بل أُستهلك. أنني كنت أعدّ الأيام كما تُعدّ خطوات السجناء في زنزانةٍ بلا نوافذ. أنني عبرت الحياة كما يعبر الغريب طريقاً لا يعرفه، دون أن يترك خلفه بصمةً واحدةً على الرمل، ولا صرخةً واحدةً في الهواء.
أن أستفيق ذات يومٍ فأجدني... بلا ذاكرةٍ حيّة، بلا لحظةٍ واحدة خفقت فيها روحي كجناحِ طائرٍ يُولد من رماده. لم أضحك حتى تدمع عيناي، لم أحبّ حتى يضيع اسمي، لم أركض تحت المطر كطفلٍ طائش، لم أرقص كأن العالم ينتهي الليلة. لم أصرخ لأن شيئاً داخلي انكسر، ولم أبكِ لأن شيئاً ما كان يستحقّ الدموع فعلاً.
كلّ ما فعلته... أنني كنت "بخير"، تلك الكذبة البيضاء التي نلفّ بها وجعنا كضمادٍ على جرحٍ لا نجرؤ على كشفه.
أتعلمين ...
إنني خائف من أن يكون ما عشته مجرّد مسرحيةٍ طويلةٍ بلا ذروة، بلا مشهدٍ أخير يستحقّ التصفيق. أن يكون قلبي قد تعلّم كيف ينبض بإيقاعٍ ميكانيكيّ، لا تعرفه الموسيقى ولا العاطفة، بل تعرّفه الجداول الزمنية، والساعات البيولوجية، والتعليمات التي كتبها الخوف على جدران النفس.
خائفٌ من أنني لم أختر شيئاً قط، بل سرتُ في الطرق التي رُسمت لي، وارتديت الأقنعة التي صُنعت لي، وعشتُ الحكاية التي كتبها الآخرون، دون أن أصرخ في وجه الحياة يوماً:
"توقّفي، أريد أن أنزل هنا، حيث الحبّ، والجنون، والصدق، والعُريّ الكامل!"
هل تعلمين ما هو الموت الحقيقي؟ هو أن تعبر الحياة دون أن يلمسك شيء. دون أن يُربكك مشهدُ غروبٍ يلوّن السماء بلون الحنين،
دون أن تُصغي لأغنيةٍ فتشعر أنها كُتبت لك، دون أن تقع في حبّ أحدهم لأن صوته فقط يشبه الوطن، أو لأن عينيه تعرفان كيف تسألان: "كيف كان يومك؟" بطريقةٍ تشبه الإنقاذ من الغرق.
الموت الحقيقي، يا عزيزتي ...
هو أن تنسى أنك إنسان... أنك كائنٌ هشّ، مكسور، متعطّش للمسّ، للدهشة، للجنون، للرقص على الحافة.
كنت أريد أن أحبّك كما يحبّ المجنون صدى صوته في الغابات البعيدة، أن أراكِ في وجه كلّ النساء، أن أكتبكِ في كلّ القصائد، أن أقول للناس إنني قابلتُ الحياة ذات يوم على هيئة عينيكِ. لكنني، في لحظةٍ ما، خِفت... خِفتُ أن أحبّ، خِفتُ أن أخسر، خِفتُ أن أكون حيّاً فعلاً.
فعدتُ إلى قوقعتي، إلى جدراني، إلى كتبي، التي تشهد أنني كنت قارئاً ممتازاً للحياة... لكنني لم أكن يوماً جزءاً منها.
ما أصعب أن تكون شاهداً على حياتك من خلف الزجاج، أن تمرّ كلّ اللحظات الجميلة كقطاراتٍ لا تتوقّف في محطّتك، أن تحيا حياةَ الآخرين، وتنسى أن تسأل: "وأين كنتُ أنا؟"
إن أعظم ندمٍ يمكن أن يشعر به إنسان، ليس أنه ارتكب الكثير من الأخطاء، بل أنه عاش دون أن يُخطئ... لأنه ببساطة، لم يجرؤ أن يعيش.
هل تعلمين، يا عزيزتي، ما أتمنّاه الآن؟ لا أريد الخلود، ولا المجد، ولا الحقيقة الكاملة. كلّ ما أريده هو لحظةٌ واحدة... أصرخ فيها من أعماقي:
"أنا حيّ!
أنا هنا!
أنا لست مجرّد رقمٍ في دفتر الأيام...
أنا نَفَسٌ، ودمعة، وقُبلة، وخوف، وشغفٌ لا يُروى!"
ربما لم يتبقَّ في العمر الكثير، لكنني أريد أن أعيشه كمن يمشي على النار، لا على الإسفلت، كمن يُحبّ حتى يُحترق، كمن يبكي لأن دموعه تروي الحقول، كمن يكتب لأنّ الورق يشتاق لصراخه.
فهل ستجعلينني أعيش، يا عزيزتي؟
هل ستُمسكين بيدي وتقولين: "هيا نضحك كالمجانين"؟
هل سنخترع لحظةً واحدةً لا تُشبه شيئاً مما عشنا من قبل؟
هل سنهزم الموت الحقيقي... ونعيش؟
حتى لو ليومٍ واحد؟
حتى لو لساعة؟
حتى لو... الآن؟