إيميل دوركايم وإسهاماته في تأسيس علم السوسيولوجيا

بقلم: د. عدنان بوزان

المقدمة:

تعتبر السوسيولوجيا علماً نقدياً يسعى إلى تفسير وفهم الميكانيزمات الاجتماعية الخفية. ظهر هذا العلم في القرن التاسع عشر نتيجة للتراكم الكمي والكيفي في الدراسات القانونية، والسياسية، والاقتصادية. بروز هذه الضرورة جاءت بفعل مبدأ التخصص في العلوم، حيث لم تعد الفلسفة تمثل الأم الرئيسية للعلوم. وقد ساهم هذا الانفصال في تأسيس علم الاجتماع على يد مجموعة من الآباء المؤسسين، من بينهم إيميل دوركايم.

إيميل دوركايم يعتبر واحدًا من رواد علم السوسيولوجيا، وقد ساهم بشكل كبير في تأسيسه كعلم مستقل. يندرج إسهام دوركايم في تحديد مجالات البحث والمناهج التي تميزت بها السوسيولوجيا. يعتبر السوسيولوجيا من خلال منظور دوركايم أن الفاعلين الاجتماعيين لا يعرفون الأسباب الموضوعية التي تقودهم، وهذا يشير إلى تركيز السوسيولوجيا على فهم الظواهر الاجتماعية وسلوكيات المجموعات.

في هذا البحث، سنقوم بتسليط الضوء على إيميل دوركايم وإسهاماته البارزة في تأسيس علم السوسيولوجيا. سنتناول أيضاً النظريات التي وضعها دوركايم وكيف أثرت في فهمنا للتفاعلات الاجتماعية والهياكل الاجتماعية.

يتضمن البحث أيضاً تحليلاً نقدياً لبعض الآراء المثارة حول أفكار دوركايم وكيف تأثرت السوسيولوجيا بهذه الأفكار على مر العقود. سنناقش أيضاً التحديات التي واجهها علم السوسيولوجيا وكيف تمكنت من التطور والبقاء كعلم نقدي يسهم في فهم الميكانيزمات الاجتماعية.

سيكون لإيميل دوركايم الدور البارز في تأسيس علم السوسيولوجيا حاضراً في تقديم الأسس النظرية والمنهجية التي ساهمت في بناء هذا العلم وجعلته أحد العلوم الاجتماعية الأساسية لفهم تفاعلات المجتمع وتكوينه.

تشكل السوسيولوجيا، بوصفها "علماً نقدياً يتخذ كهدف له تفسير وفهم الميكانيزمات الاجتماعية الخفية"، حجر الزاوية في فهم التفاعلات والظواهر الاجتماعية التي تميز حياة الإنسان. يعود تأسيس هذا العلم إلى القرن التاسع عشر، حيث برزت الحاجة الملحة لفهم التحولات الاجتماعية في أعقاب التطور الكمي والكيفي الذي شهدته الدراسات القانونية، والسياسية، والاقتصادية. في ظل مبدأ التخصص الذي بدأ يسيطر على العلوم، أصبح من الواضح أن الفلسفة لم تعد كافية لاستيعاب التعقيدات الاجتماعية، مما أدى إلى نشوء حاجة ملحة لتأسيس علم مستقل يعنى بدراسة الظواهر الاجتماعية.

في هذا السياق، أسهمت مجموعة من العلماء الرائدين في تأسيس علم السوسيولوجيا كعلم مستقل بذاته، وكان من بين هؤلاء العلماء إميل دوركايم، الذي اعتبرت أفكاره وإسهاماته أحد الركائز الأساسية في بناء هذا العلم. إميل دوركايم، الذي عاش في القرن التاسع عشر، كان من بين الآباء المؤسسين لعلم السوسيولوجيا، وقد أسهم بشكل كبير في تطويرها كعلم يعتني بفهم التفاعلات والترابطات الاجتماعية.

تأتي أهمية أفكار دوركايم في تأكيد أهمية مراقبة المجتمع وفهم سلوكياته، حيث تركز ملاحظاته على الفاعلين الاجتماعيين وتأثيراتهم على هيكل المجتمع. بموجب نظرياته، يظهر دور الفاعل الاجتماعي كشخص يتفاعل مع بيئته ويتأثر بالقيم والتقاليد الاجتماعية المحيطة به. وفي هذا السياق، يستند أساس السوسيولوجيا إلى مراقبة المجموعة الاجتماعية وسلوكياتها، بينما يؤكد بيير بوريو على عدم وعي الفاعلين الاجتماعيين بالأسباب الموضوعية التي تحكم أفعالهم.

بهذا السياق، يتناول البحث الإلقاء الضوء على إميل دوركايم ومساهماته البارزة في تطوير علم السوسيولوجيا، وكيف أسهمت أفكاره في تشكيل الرؤى المعاصرة حول الفهم العلمي للظواهر الاجتماعية. السوسيولوجيا، كعلم نقدي يهدف إلى فهم الظواهر الاجتماعية وسلوكيات الأفراد، تعد مجالاً فريداً يستند في أساسه إلى الملاحظة والتفاعل المباشر مع الوقائع الاجتماعية.

يسعى السوسيولوجي إلى تفسير الدوافع والعلاقات الاجتماعية من خلال تحليل الظواهر والسلوكيات، محاولاً فهم لماذا تحدث الأمور على نحو معين ولماذا تتصرف الفرد بطريقة محددة.

تتمحور الطريقة السوسيولوجية في الملاحظة المباشرة للحياة الاجتماعية، حيث يعتبر إميل دوركايم واحداً من العلماء الذين رسموا ملامح هذا النهج. بداية الممارسة السوسيولوجية بالنسبة لدوركايم تكمن في الملاحظة، حيث يجسد ذلك استناده إلى الوقائع والمعاينة المباشرة للحياة الاجتماعية. يقوم السوسيولوجي بفحص الظواهر بدقة وتسليط الضوء على التفاصيل الدقيقة لفهم السلوك الاجتماعي.

من خلال هذا النهج، يسعى السوسيولوجي إلى تحقيق التأويل، أي فهم الدلالات العميقة والسياقات التي تحيط بالظاهرة الاجتماعية. يتمثل ذلك في الربط بين الواقعة أو السلوك وبين العلاقة الجدلية بين الأفراد والجماعات. بمعنى آخر، يسعى السوسيولوجي إلى فهم العوامل التي تؤثر في السلوك الفردي وكيف يتفاعل الفرد مع المجتمع الذي يعيش فيه.

في سياق إميل دوركايم، يتطرق السوسيولوجي لتحليل الحقائق الاجتماعية بطريقة محايدة وبعيدة عن القيم والتقاليد الشخصية. يسعى إلى فهم القوانين الاجتماعية والروابط البنيوية التي تربط الأفراد في المجتمع. يهدف دوركايم في دراسته السوسيولوجية إلى إلقاء الضوء على التفاعلات بين الفرد والمجتمع، مسلطاً الضوء على التوازن بين الفردي والجماعي وكيف يتم تكوين الهوية الاجتماعية عبر هذه العلاقات المعقدة.

أولاً : لمحة عن حيا ة إميل دوركايم

إميل دوركايم، السوسيولوجي الفرنسي البارز، عاش في الفترة بين عامي 1858 و1917م، ويعتبر من أوائل العلماء في ميدان علم الاجتماع الذين اتجهوا نحو العمل الأكاديمي. وله تأثير كبير في تطوير هذا العلم من خلال أفكاره وأعماله البارزة. تميزت حياة دوركايم بالتفرغ للدراسات الجامعية والبحث العلمي، حيث قاده تحليل الظواهر الاجتماعية إلى فهم أعماق العلاقات الاجتماعية وتأثيرها على سلوك الفرد.

ولد إميل دوركايم في إبينال بالفلورين في فرنسا، وكان والده حاخاماً يهودياً يأمل في أن يتبع ابنه نهج العائلة ويصبح رجل دين. وعلى الرغم من ذلك، كان دوركايم يشعر بالتوتر بين تعاليم الديانة اليهودية وبين تفكيره العلماني. درس العبرية وقرأ في العهد القديم والتلمود، وفي الوقت نفسه كرس نفسه لدراسة العلوم العلمانية.

بدأ دوركايم رحلته الأكاديمية بعد قبوله في المدرسة العليا عام 1879م، حيث التقى بعدد من العلماء المرموقين في ذلك الوقت. منهم هنري برجسون، الفيلسوف الشهير، وبيير جانيت، الباحث في علم النفس. كما كان لأستاذه فوستل دي كولانج تأثير كبير على دوركايم، حيث أصبح هذا الأخير مهتماً بفهم المجتمع والظواهر الاجتماعية من منظور علمي.

تأثر دوركايم بأفكار ومناهج هؤلاء العلماء، وبدأ يطور نظرياته الخاصة حول السوسيولوجيا، مما أدى إلى تأسيس مدرسة دوركايمية تركت بصمتها على تطور هذا العلم. أسهم دوركايم في تطوير السوسيولوجيا من خلال أفكاره حول التضامن الاجتماعي والتفكير في الطبقات الاجتماعية وتأثيرها على الهوية الفردية.

بعد تخرج إميل دوركايم من المدرسة العليا في عام 1882م، بدأ مرحلة جديدة في حياته المهنية. قضى خمس سنوات يعمل كمدرس في المدارس الثانوية حتى عام 1887م. خلال هذه الفترة، اكتسب دوركايم خبرة قيمة في التدريس وتفاعل مباشر مع شباب الجيل الصاعد، مما ساهم في تشكيل رؤيته للمجتمع والتفاعلات الاجتماعية.

تمكن دوركايم في عام 1887م من السفر إلى ألمانيا في إجازة علمية، حيث كانت هذه الرحلة فرصة له للتعرف على فكر عدة علماء ألمان، من بينهم فاجنر وشمولر وفونت. تأثر دوركايم بشكل كبير بأفكار هؤلاء العلماء، مما أثر على موقفه الفلسفي ورؤيته للواقع والفكر.

إضافة إلى ذلك، فقد تأثر دوركايم بشكل كبير بفلاسفة عصر التنوير، مثل جان جاك روسو ومونتسكيو. ولا يمكن نسيان تأثيره العظيم بفكر سان سيمون، الذي اعتبره أستاذًا في علم الاجتماع. هذه التأثيرات المتعددة ساهمت في تشكيل مفهومه للسيسيولوجيا وتوجيه اهتماماته في مجال البحث.

من الناحية الاجتماعية، عاش دوركايم في مجتمع يهودي محافظ، حيث كانت تسود علاقات مباشرة وتواصل اجتماعي متين. رغم أن فرنسا كانت تمر بفترة من الهدوء النسبي في الساحة السياسية في تسعينات القرن التاسع عشر، إلا أن المسرح السياسي لا يزال يعكس تأثير الثورات التي شهدتها البلاد في فترات سابقة.

بهذه الطريقة، كانت تجربة دوركايم الشخصية والاجتماعية والأكاديمية حيوية في تشكيل رؤيته للعالم وأسسه النظرية في مجال علم الاجتماع.

إميل دوركايم، في استكمال رؤيته للمجتمع، انتقل إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث استمر في دراسته وتفتح له فرص لفحص التنوع والتباين الاجتماعي في محيطه الجديد. رغم أنه انخرط في حياة المجتمع المعقد والمتباين في باريس، لم ينس دوركايم ارتباطاته الأولى ومرجعياته الأساسية، حيث استمر في التفكير بمقاربتين رئيسيتين للمجتمع.

رسم دوركايم صورتين للمجتمع، الأولى تعبر عن مجتمع الطفولة البسيط، الذي ارتبط به من خلال أصوله اليهودية وتربيته، والثانية تمثل المجتمع العاصمي باريس، الذي يميزه التعقيد والتنوع. هذه الرؤيتين للمجتمع أظهرت اهتماماً بفهم التناقضات والتباينات الاجتماعية.

في تحليله للمجتمع، انخرط دوركايم في استكشاف مفهومين أساسيين للتضامن: التضامن الآلي والتضامن العضوي. تفسر التضامن الآلي طريقة التنظيم الاجتماعي في المجتمعات الأقل تقدماً، حيث يعتمد التفاعل بين الأفراد على التكامل الهيكلي والتكامل الوظيفي. بينما يعبر التضامن العضوي عن التفاعل في المجتمعات المتقدمة، حيث يعتمد التكامل على التنوع والتخصص.

رغم أن دوركايم كان قد أثرت فيه الأفكار الاشتراكية، خاصة تلك التي قدمها سان سيمون وماركس، إلا أنه بنى تصوراته الخاصة حول السوسيولوجيا. اهتم بشكل مبكر بالفكر الاشتراكي واستفاد من مقولاته ونظرياته، ولكن تبنى مواقف مستقلة أحياناً ومعارضة في بعض الأحيان. قدم دراجاته الشهيرة حول "تقسيم العمل"، والتي أظهرت أنه استوعب ونقده للأفكار الاشتراكية في نفس الوقت.

تأكيد تضامنه الاجتماعي بدلاً من التأكيد على الصراع الاجتماعي كانت إحدى السمات المميزة لتصورات دوركايم، وهي فكرة تؤكد على أهمية التكامل والتفاعل بين أفراد المجتمع لتحقيق التوازن والاستقرار.

1. تقسيم العمل والتضامن الاجتماعي: إحدى النظريات الرئيسية التي تناولها إميل دوركايم هي نظرية "تقسيم العمل" والتي طرحها في أعماله الرئيسية مثل "تقسيم العمل في المجتمع" (1893). في هذا السياق، قام دوركايم بتحليل كيفية تقسيم العمل في المجتمع يؤثر على التضامن الاجتماعي. اعتبر أن هناك نوعين من التضامن: التضامن الآلي والتضامن العضوي.

• التضامن الآلي : ينشأ في المجتمعات البسيطة التي يكون فيها تقسيم العمل محدوداً، حيث يعتمد الأفراد على بعضهم البعض بشكل كبير، ويكون التكامل الاجتماعي ناتجاً عن التشابه والتكامل الهيكلي.

• التضامن العضوي: يظهر في المجتمعات المعقدة التي تعتمد على تقسيم العمل المتقدم، حيث يكون التكامل الاجتماعي ناتجاً عن التنوع والتخصص. في هذا النوع من التضامن، يعتمد الأفراد على بعضهم بسبب التكامل المتقدم في المجتمع.

تشير هذه النظرية إلى أهمية تفاعل تقسيم العمل وتأثيره على بنية المجتمع ومستويات التضامن بين أفراده.

2. قواعد المنهج في علم الاجتماع: في كتابه "قواعد المنهج في علم الاجتماع" الصادر عام 1895، قدم دوركايم منهجاً للبحث الاجتماعي. شدد على أهمية استخدام المنهج العلمي في دراسة الظواهر الاجتماعية، وحث على التفاعل المباشر مع الوقائع والاستنتاجات المستندة إلى الحقائق والملاحظات الدقيقة.

3. الانتحار : في أعماله كـ"دراسة الانتحار" (1897)، قام دوركايم بتحليل الظاهرة الاجتماعية للانتحار. قدم تصوراً جديداً حول أسباب وأشكال الانتحار، حيث استخدم منهجاً تفسيرياً واقتصادياً لفهم هذه الظاهرة.

4. التفسير الاجتماعي للدين والأخلاق والمعرفة : في أعماله، خاصة "التقدم الفاحش في العلوم والفنون" (1899)، استكشف دوركايم علاقة المجتمع بالدين والأخلاق والمعرفة. أبرز أهمية هذه العوامل في تكوين هوية المجتمع وتوجيه تطوره.

5. تطور المجتمعات وأشكالها: في كتابه "تطور المعرفة" (1900)، قدم دوركايم تحليلاً لتطور المجتمعات وأشكال التقدم في المعرفة. ركز على أثر التقدم الاجتماعي والتكنولوجي في تطور المجتمعات وتغير هياكلها.

بشكل عام، يظهر من خلال هذه النقاط الرئيسية أن دوركايم قد قدم إسهامات هامة في مجالات متنوعة من السوسيولوجيا، مما جعله من الشخصيات المؤثرة في تطوير هذا العلم.

في أول دراسة هامة لإميل دوركايم، حدد لنفسه مهمة أساسية تتلخص في فحص تأثير تقسيم العمل على التضامن الاجتماعي. في هذا السياق، أكد دوركايم على أهمية تطوير تقسيم العمل بشكل تاريخي، حيث يُفترض أن يكون هذا التطور عملية ضرورية تؤدي إلى تعزيز التضامن بين أفراد المجتمع.

في تفسيره، ركز دوركايم على فكرة الوظائف التي يؤديها الأفراد وكيفية تنظيمهم في ترتيب طبقي. أوضح أن هناك تبايناً في درجات الثروة والقوة والهيبة الاجتماعية بين الطبقات المختلفة. ومن ثم، قام بتأكيد رأيه بأن تقسيم العمل والتباين في هذه الوظائف لا يؤدي بالضرورة إلى صراع المصالح والتفكك في المجتمع.

في رؤية دوركايم، إذا تطورت الصناعة وتقسيم العمل، فإن ذلك يجب أن يكون عملية مؤدية إلى تكامل المجتمع بشكل أكبر وتقوية التضامن الاجتماعي. وبناءً على هذا الفهم، أشار إلى أهمية دور الدولة في دعم النسق الأخلاقي العام في المجتمع. يرى دوركايم أن هذا الدعم يسهم في منع حدوث صراعات المصالح والتفكك الاجتماعي.

وأخيراً، يعتقد دوركايم أن هناك إصلاحات اجتماعية ضرورية يجب تنفيذها لضمان إقامة عدالة حقيقية وتحقيق تضامن اجتماعي قوي. يشير هذا إلى رؤيته الثاقبة حول ضرورة تحقيق التغييرات الاجتماعية لتعزيز العدالة والتضامن في المجتمع.

إميل دوركايم، من خلال رؤيته الفريدة حول العلاقة بين الأخلاق والعلم، يؤكد على أهمية إقامة علم أخلاقي يتناسب مع طبيعة الظواهر الاجتماعية. يعتقد دوركايم أنه لا يجب فصل الأخلاق عن العلم، بل يجب بناء نهج أخلاقي يختلف عن الفلسفة الأخلاقية التقليدية، وذلك نتيجة لارتباط وثيق بين الأخلاق وتقسيم العمل الاجتماعي.

السبب الرئيسي وراء هذا الارتباط يعود إلى فهم دوركايم للقواعد الأخلاقية، حيث يرى أنها ترتبط بشكل وثيق بظروف الحياة الاجتماعية. يعني ذلك أن المعايير الأخلاقية تكون نسبية وتتأثر بالسياقات الاجتماعية، مثل الزمان والمكان. وبناءً على هذا الاعتبار، يقوم علم الظواهر الأخلاقية بتحليل تأثير التغيرات في البيئة الاجتماعية على تطوّر المعايير الأخلاقية، وذلك من خلال المراقبة والوصف والتصنيف.

دوركايم يؤكد أن تقسيم العمل الاجتماعي ليس ظاهرة حديثة، ولكن الجانب الاجتماعي لها أصبح واضحاً منذ نهاية القرن الثامن عشر. يركز على أن هذه الظاهرة تعكس تطور المجتمع وتغيراته، وهو ما يتطلب فهماً دقيقاً للسياق الاجتماعي لتفسير تأثيراتها على المعايير الأخلاقية.

بالتالي، يبرز دوركايم أهمية تقديم نهج أخلاقي يتيح للباحثين فهم الأخلاق كظاهرة اجتماعية تتغير وتتطور مع تغير البيئة الاجتماعية، وهو ما يساهم في تشكيل نظرة فعّالة ومتغيرة حسب سياق الزمان والمكان.

إميل دوركايم يتبنى وجهة نظر أوجست كونت حول تقسيم العمل كشرط أساسي للحياة، ويستمر في استكشاف تأثير تقسيم العمل على الحياة الاجتماعية. يؤكد دوركايم على أن تقسيم العمل ليس مجرد ظاهرة اقتصادية، بل يُعتبر شرطًا أساسيًا للحياة نفسها.

بعد تأكيد أهمية تقسيم العمل، انتقل دوركايم إلى استكشاف تنوع نماذج التضامن الاجتماعي. وخلص إلى وجود نموذجين أساسيين للتضامن: التضامن الآلي والتضامن العضوي.

• التضامن الآلي: يسود في المجتمعات البدائية أو التقليدية، حيث يكون هناك شعور قوي بالتجانس الاجتماعي. يتسم المجتمع الانقسامي بهذا التضامن بسمات اجتماعية خاصة، حيث يتفق الأفراد على الأفكار والمعتقدات والعادات والآراء. يسود هنا التجانس الاجتماعي، وتكون الأفكار والعواطف العامة متجانسة بين أعضاء المجتمع.

• التضامن العضوي : يرتبط بالمجتمعات الحديثة التي يزداد فيها تقسيم العمل. يتميز المجتمع الذي ينتشر فيه التضامن العضوي بسمات اجتماعية خاصة، حيث يغلب على السلوك الإنساني فيه التجانس الاجتماعي. تتشكل هنا الأفكار والمعتقدات والعادات والآراء من خلال طرائق السلوك الفردي والجماعي. وتظهر الولاءات للضمير الجماعي، وهو المجموعة الشاملة للمعتقدات والعواطف العامة بين أعضاء المجتمع.

باختصار، يعكس دوركايم في رؤيته حول تقسيم العمل وأنماط التضامن الاجتماعي، استمرارية التطور الاجتماعي وتأثيره على تشكيل الهوية الاجتماعية في المجتمعات المختلفة.

تتجلى رؤية إميل دوركايم حول الضمير الجماعي وتأثيره على المجتمع في تفسيره لطبيعة هذا الضمير ودوره في تحقيق التضامن الاجتماعي. يعتبر الضمير الجماعي نسقاً خاصاً يتميز بوجوده المتميز عبر الزمن، حيث يسهم في توحيد الأجيال وتعزيز الانتماء للمجتمع.

تتمثل قوة الضمير الجماعي في القدرة على الحفاظ على نسقه الفريد والتفاعل بين الأفراد. يعتبر هذا الضمير وجوداً مستداماً يعزز التفاعل والتجانس الاجتماعي، ويعمل على توجيه تلك القيم والمعتقدات والعواطف العامة عبر الأجيال.

فيما يتعلق بزيادة تقسيم العمل، يقدم دوركايم تفسيراً يرتبط بحجم المجتمع وكثافة السكان. يعتبر زيادة عدد السكان عاملاً أساسياً في تقسيم العمل، حيث ينشأ ذلك نتيجة لزيادة حجم المجتمع وشدة التفاعل الاجتماعي. يشير إلى أن هذا الارتفاع في عدد السكان يؤدي إلى زيادة شدة الصراع من أجل البقاء والاستمرار.

في هذا السياق، يلعب تقسيم العمل دوراً حيوياً في تقليل حدة الصراع، حيث يفتح المجال أمام التخصص المهني. يُمكن هذا التخصص من توفير فرص أوسع للفرد للحصول على وسائل الحياة، مما يقلل من حاجة الأفراد للتنافس بشكل حاد.

ثانياً: قواعد المنهج في علم الاجتماع

دوركايم يعزو أهمية دراسته للظواهر الاجتماعية إلى وجود منهج علمي يمكّن من تحقيق الأهداف العلمية والوصول إلى قوانين تلك الظواهر. يركز على قواعد المنهج في علم الاجتماع كأساس لتحليل وفهم المجتمع وظواهره. إليك شرحًا لبعض هذه القواعد:

1. دراسة الظواهر باعتبارها أشياء قابلة للملاحظة والتجربة : يعتبر دوركايم أن دراسة الظواهر الاجتماعية يجب أن تقوم على أساس الملاحظة والتجربة. يعني ذلك أن الباحث يجب أن يكون قادراً على رصد هذه الظواهر في سياقها الطبيعي واختبار فروضه من خلال التجارب والدراسات الميدانية.

2. التحرر من الأفكار الشخصية السابقة: يشدد دوركايم على أهمية أن يكون الباحث خالياً من أي فكرة سابقة تجاه الظاهرة التي يدرسها. هذا يهدف إلى تجنب التأثيرات الشخصية والتحيزات، ويساعد على إجراء دراسة موضوعية تستند إلى الحقائق والبيانات الواقعية.

3. تعريف الظاهرة المدروسة : يعتبر دوركايم أن الباحث يجب أن يبدأ بتعريف الظاهرة التي يقوم بدراستها. هذا التعريف يسهم في تحديد نطاق الدراسة وتحديد المتغيرات الرئيسية التي سيتم فحصها.

4. تحليل الظواهر من منظور مستقل : يجب على الباحث تحليل الظواهر الاجتماعية بشكل مستقل عن مظاهرها الفردية. هذا يعني أنه يجب فحص العوامل والتأثيرات التي تظهر بشكل مستقل عن العوامل الفردية.

قواعد المنهج في علم الاجتماع تسعى إلى تحقيق منهجية علمية دقيقة ومستنيرة تمكّن الباحث من فهم وتفسير تلك الظواهر بشكل أفضل وأعمق.

قواعد وخطوات المنهج في دراسات دوركايم:

1. دراسة نشأة الظاهرة وتحليل عناصرها : يبدأ الباحث بفحص نشأة الظاهرة المدروسة وتحليل العناصر التي تشكلها. يسعى إلى فهم كيف ولماذا نشأت الظاهرة، وما هي العوامل المؤثرة في تكوينها.

2. دراسة تطور الظواهر واستكشاف أشكالها المتنوعة: يشمل المنهج دراسة تطور الظواهر على مر الزمن والتعرف على مختلف أشكالها. يهدف ذلك إلى تتبع التغيرات والتحولات التي قد تطرأ على الظاهرة في سياق معين.

3. دراسة العلاقات بين الظاهرة والظواهر الأخرى : يتعمق الباحث في دراسة العلاقات التي تربط الظاهرة بغيرها من الظواهر ضمن نفس المجال. هذا يساعد في فهم السياق الشامل للظاهرة وتأثيراتها المتبادلة.

4. استخدام المقارنة في دراسة الظواهر: يعتمد دوركايم على المقارنة كأداة أساسية في دراسته. يقارن بين الظواهر المختلفة لفهم الأوجه المشتركة والاختلافات بينها، وذلك للكشف عن قوانين وأنماط.

5. تحليل وظائف الظاهرة الاجتماعية وتطورها التاريخي: يركز الباحث على كشف وظيفة اجتماعية تؤديها الظاهرة وكيف تطورت هذه الوظيفة عبر التاريخ. يتناول تأثيرات الظاهرة على المجتمع وكيف أدت وظيفتها إلى تغيرات وتطور.

6. تحديد القوانين الاجتماعية : تعتبر هذه الخطوة الأخيرة حيوية، حيث يقوم الباحث بتحديد القوانين الاجتماعية التي يمكن استنتاجها من دراسته. يجب أن تكون هذه القوانين صياغتها بدقة، حيث تمثل النتائج العلمية النهائية والتي تكون أساساً لفهم الظاهرة وتوجيه المستقبل.

الدراسة المهمة لدوركايم حول الانتحار:

دوركايم استحدث دراسته الهامة حول الانتحار باعتباره ظاهرة اجتماعية تستحق التحليل والفهم. إليكم نظرة على أهم نقاط هذه الدراسة:

1- تعريف الانتحار:

بدأ دوركايم بتحديد مفهوم الانتحار، وأظهرت دراسته أنه يشمل كل حالة وفاة ناتجة مباشرة أو غير مباشرة عن فعل سلبي أو إيجابي قام به المنتحر بنفسه، علماً أنه كان يتوقع نتيجة هذا الفعل.

2- المجموع الكلي لحالات الانتحار كظاهرة اجتماعية:

قام دوركايم بتحليل مجموع الحالات الفردية للانتحار في بلد معين، حيث وجد أن هذا المجموع يُعتبر "الظاهرة الاجتماعية". هنا، تحول الانتحار من مجرد حالات فردية إلى ظاهرة يمكن دراستها وتحليلها اجتماعياً.

3- تحليل العوامل غير الاجتماعية للانتحار:

استعرض دوركايم عوامل غير اجتماعية للانتحار مثل العوامل النفسية والعوامل الكونية. ومع ذلك، قام بإبعاد هذه العوامل وتركيزه على الجوانب الاجتماعية، مما يشير إلى إيمانه بأن هناك أسباباً اجتماعية أساسية يجب التركيز عليها.

4- العوامل الاجتماعية للانتحار:

بعد استبعاد العوامل الغير اجتماعية، تناول دوركايم العوامل الاجتماعية المحتملة للانتحار. تضمنت دراسته التحليل من ناحية غير اجتماعية مثل ربط الانتحار بالمرض العقلي والعوامل الكونية. وفي نهاية المطاف، ركز دوركايم على المواقف الاجتماعية والأسباب الاجتماعية التي تشكل جوهر دراسته.

تحقيق دوركايم في فهم الانتحار باعتباره ظاهرة اجتماعية قدم إسهاماً هاماً في مجال علم الاجتماع، حيث قاده هذا التحليل إلى الانتقال من الأسباب الفردية إلى الفهم الاجتماعي للظاهرة.

تصنيفات دوركايم لحالات الانتحار:

دوركايم قام بتصنيف حالات الانتحار إلى ثلاث نماذج رئيسية، حيث يرتبط كل نموذج بمجموعة معينة من الأسباب الاجتماعية. إليكم نظرة على هذه النماذج:

1. الانتحار الأناني : في هذا النموذج، يكون الفرد هو المركز الرئيسي للانتحار، حيث يكون السبب الرئيسي للفرد هو نفسه. تشمل الأسباب الاجتماعية للانتحار الأناني العزلة الاجتماعية، وفشل العلاقات الاجتماعية، والضغوط النفسية.

2. الانتحار الغيري أو الايثاري : يكون في هذا النموذج الآخر هو المركز، وقد يكون السبب في الانتحار هو رغبة في تحسين حياة الآخرين أو تخفيف معاناتهم. يمكن أن تكون الأسباب الاجتماعية لهذا النموذج مرتبطة بالقلق عن الآخرين والرغبة في خدمتهم.

3. الانتحار الانومي: يرتبط هذا النموذج بفقدان التوازن في المجتمع، حيث يكون الفرد ضحية للتغيرات الاقتصادية أو الاجتماعية المفاجئة. يكون لديه شعور بالعدم التحقق أو فقدان الاتجاه، مما يؤدي إلى انتحار يعكس حالة العدمية.

التفسير الاجتماعي للدين عند دوركايم:

في كتابه "الصور الأولية للحياة الدينية"، سعى دوركايم إلى تقديم تحليل دقيق للصور والمصادر وطبيعة وأثار الدين من منظور سوسيولوجي. بحث في أصل الدين من خلال تحليل الدين في المجتمعات البدائية، مؤكداً على أن التغير في الشكل يؤدي إلى تغيرات جوهرية في الطبيعة.

دوركايم يؤكد أن دراسة الدين يجب أن تتم كحقيقة اجتماعية، وهو يعتبر الدين كجزء من تطور المجتمع من البسيط إلى المركب. يعتقد أن فهم التطور الاجتماعي يساعد في تحديد طبيعة الدين ودوره في المجتمع، مؤكداً على أن علم الاجتماع يتطلب منهجاً مختلفاً لفهم الظاهرة الدينية بشكل شامل كظاهرة اجتماعية.

رفض دوركايم لتفسير الدين:

إيميل دوركايم يرفض تفسير الدين على أنه نتاج تقسيمات عقلية زائفة أو توهم ناجم عن ضغط مشاعر معينة. بدلاً من ذلك، سعى دوركايم إلى فهم أصل الديانات من خلال دراسته للثقافات والمجتمعات البدائية.

دراسته للقبيلة الاسترالية - الارونتا:

قام دوركايم بدراسة قبيلة استرالية تسمى الارونتا، حيث رآى في هذه القبيلة مثالاً يُمكن من خلاله فهم أصل الديانات. اعتبر أن هذه القبيلة تُمثل مرحلة أولى في التطور الديني.

التوتمية:

اكتشف دوركايم أن أصل الديانات في هذه القبيلة يعود إلى ديانة تعرف باسم "التوتمية". تتسم التوتمية ببساطتها، حيث تشير إلى اعتقاد داخلي في وجود قوى غيبية أو مقدسة، أو في وجود مبدأ يحدد مجموعة من الجزاءات التي يتعين تطبيقها على الذين ينتهكون المحرمات. تعمل التوتمية أيضاً على دعم المسئوليات الأخلاقية في الجماعة.

تفسير دوركايم للدين:

من خلال دراسته، رأى دوركايم أن الدين ينشأ كجزء لا يتجزأ من تطور المجتمع، وليس كتفسير لظواهر عقلية فردية. يرى أن الدين ينعكس الطابع الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع، ويعتبره جزءاً من نظام القيم الذي يحكم تفاعل الأفراد في المجتمع.

تأكيد تفسير دوركايم:

دوركايم أكد أن الدين لا يمكن تفسيره كظاهرة فردية أو ناتجة عن تحولات عقلية شخصية. بدلاً من ذلك، يعتبره عنصراً متكاملاً في الهيكل الاجتماعي للمجتمع. ينظر إلى الدين كجزء من نظام القيم الذي يشكل أساساً للسلوك الاجتماعي ويعزز التضامن والتكامل داخل المجتمع.

الدين كظاهرة اجتماعية:

يُظهر دوركايم في دراسته عن الصور الأولية للحياة الدينية أنه يعتبر الدين ظاهرة اجتماعية. يُلقي الضوء على الأبعاد الاجتماعية للدين وكيف يتفاعل مع بنية المجتمع والقيم المشتركة.

رفض النظريات النفسية:

في مقاومته لتفسيرات الدين النفسية، رفض دوركايم الفهم الذي يرى في الدين مجرد انعكاس لاحتياجات نفسية شخصية أو توجهات فردية. بدلاً من ذلك، أكد على البحث عن معاني اجتماعية وثقافية للدين.

تأثير المجتمع على الدين:

من وجهة نظر دوركايم، يكون للدين تأثير كبير على تشكيل المجتمع والمؤسسات الاجتماعية. يساهم في تعزيز التضامن والتكامل الاجتماعي وتحديد أخلاقيات المجتمع.

الدين كعنصر تكاملي:

بشكل عام، يعتبر دوركايم الدين عنصراً تكاملياً في بنية المجتمع يساهم في تعزيز الروابط الاجتماعية وتحديد الهوية الجماعية.

نمط المجتمع عند دوركايم:

دوركايم يُقدم تصوّراً فريداً حول نمط المجتمع، ويقسمه إلى نوعين رئيسيين: التماسك الآلي والتماسك العضوي. يركز هذا التقسيم على درجة التماسك الاجتماعي في المجتمع وكيف يتم تحقيق التكامل والتضامن فيه.

1. التماسك الآلي:

o السلوك: يسيطر عليه التقاليد والمعتقدات والآراء المتماثلة.

o القوانين والأخلاق والضوابط الاجتماعية : يتم التحكم فيها بواسطة العقاب القهري، حيث يُفرض الانضباط الاجتماعي بشكل صارم.

o البنية السياسية : تتسم بالاجتماعات العامة وتأكيد السلطة القائمة والتقاليد.

o الاقتصاد : يتسم بالمشاركة والملكية المشتركة والملكية التعاقدية.

o الدين: يميل إلى التوتمية، حيث يتم التأكيد على القيم والتقاليد الدينية.

2. التماسك العضوي:

o السلوك : يزداد التخصص في العمل الفردي وتزايد الفردية.

o القوانين والأخلاق والضوابط الاجتماعية : يعتمد على التأكيد على الصواب والخطاب التعاقدي والعقوبات التأكيدية.

o البنية السياسية : يستند إلى علاقات التعاقد بين الحكومة والمواطنين.

o الاقتصاد: يمتاز بالملكية التعاقدية والخاصة.

o الدين : يتجه نحو وحدانية الله وتجنب التعصب لموطن الإقامة.

تفسير الانتحار:

• الانتحار الغيري : يعززه التماسك الآلي، حيث يكون للمجاعة دور كبير في تفسير هذا النوع من الانتحار.

• الانتحار الأناني : يشدد على العوامل الفردية والانحراف عن المعايير الاجتماعية.

ملحوظة: *توجد تناقضات في النص بخصوص " التوتمية "، حيث ذُكرت تحت "التماسك الآلي" و"الانتحار الغيري"، ولكن الوصف الذي يأتي لاحقاً يظهرها كنوع من "الأناني". يمكن تصحيح هذا التناقض لتعكس مفهوم دوركايم بشكل أفضل.

ثالثاً: إميل دوركايم و علم الاجتماع

إميل دوركايم، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، كان له إسهامات كبيرة في تطوير علم الاجتماع. فيما يلي تحليل لوجهة نظره حول تطوير العلم وتفضيله للفروع الخاصة في ميدان علم الاجتماع.

1. الفروع الخاصة لعلم الاجتماع:

• التخصص والتميز : دوركايم أشار إلى أهمية تخصيص علم الاجتماع لفروعه الخاصة وتميزه بين الأجزاء والعناصر المختلفة في الواقع الاجتماعي. كان يروج للتفرغ لدراسة مشكلات محددة تعكس تنوع الظواهر الاجتماعية.

• مرحلة التخصص: دعم دوركايم فكرة بدء علم الاجتماع في مرحلة التخصص، حيث يتم التركيز على فهم ودراسة مجالات محددة ومحدودة في المجتمع بدلاً من محاولة دراسة الكل بشكل شامل.

• تقسيمات فروع العلم: كتب دوركايم عن التنوعات الموجودة في الظواهر الاجتماعية وأيد تقسيمات فروع العلم بما يتناسب مع هذا التنوع.

2. "علم دراسة المجتمعات":

• في كتابه "قواعد المنهج في علم الاجتماع"، وصف دوركايم علم الاجتماع بأنه "علم دراسة المجتمعات". هذا التعريف يظهر فهمه للعلم كمجال يركز على فهم ودراسة التفاعلات الاجتماعية في مجتمعات محددة.

3. التنوع في الظواهر الاجتماعية:

• دعم دوركايم فكرة أن علم الاجتماع ينبغي أن يكون متنوعاً ويتفرع ليشمل التنوعات في الظواهر الاجتماعية، وهو يؤكد على أن هناك تنوعات كبيرة في الواقع الاجتماعي يجب أن يتم التفرغ لدراستها بشكل أفقي.

إميل دوركايم، بمفهومه لعلم الاجتماع، نقل فهمه للمجتمعات عبر دراسته للتفاعلات والظواهر الاجتماعية المتنوعة، مع التأكيد على أهمية تخصيص العلم وفهمه كمجموعة من الفروع الخاصة تعكس تنوع المجتمع.

تأثير الفلسفة الوضعية على فكر إميل دوركايم في علم الاجتماع:

تمثل الفلسفة الوضعية التي أعرب عنها أوغست كونت نقطة تأثير كبيرة على فكر إميل دوركايم، خاصة فيما يتعلق بتصوّره لعلم الاجتماع. يظهر هذا التأثير من خلال التأكيد على ضرورة التعامل مع الظواهر الاجتماعية كأشياء ملموسة، وهو مفهوم تعتمد على فلسفة الوضعية.

1. تناول الظواهر الاجتماعية كأشياء:

o دعا دوركايم إلى التعامل مع الظواهر الاجتماعية كأشياء قابلة للدراسة والقياس، وهذا التوجه يعكس الفلسفة الوضعية التي تركز على التجربة والواقع الملموس.

2. التأثير الوظيفي والتشابك الحيوي:

o استلهم دوركايم فكرته حول التشابك الوظيفي بين الظواهر الاجتماعية من التشابك الحيوي في العلوم الطبيعية. ركز على كيف يُعبّر البناء الاجتماعي عن وظائف مجتمعية محددة، مشابهة لكيفية عبور الكائن الحي تجسيدًا للوظائف الحيوية.

3. المقارنة بين الحياة العضوية والحياة الاجتماعية:

o أعطى دوركايم اهتماماً كبيراً للمقارنة بين الحياة العضوية والحياة الاجتماعية. هذا المقارنة يعكس التفكير الوظيفي الذي قدمه كونت والذي تبناه دوركايم.

4. التماثل بين البناء العضوي والاجتماعي:

o أقام دوركايم تماثلاً بين الظواهر البيولوجية والاجتماعية بناءً على الوظائف، حيث يُظهر البناء الاجتماعي وظائف وأهداف مجتمع معين، مماثلاً لكيفية يُظهر البناء العضوي وظائف الكائن الحي.

في النهاية، نجد أن فلسفة الوضعية قد نسجت خيوطها في فهم دوركايم للعلم الاجتماع، مما أثّر في تفضيله للنهج الوظيفي والتشابك الحيوي في دراسته للمجتمع وظواهره الاجتماعية.

تحديد الظاهرة الاجتماعية في علم الاجتماع برؤية إميل دوركايم:

إميل دوركايم اهتم بشكل كبير بتحديد الظاهرة الاجتماعية وتشخيصها، معتبراً إياها الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع. وفي هذا السياق، حدد عدة خصائص تبرز موقفه وتوجهاته نحو المسائل السوسيولوجية والمجتمعية.

1. التلقائية والوجود السابق:

o ركّز دوركايم على فكرة أن الظاهرة الاجتماعية هي تلقائية، أي أنها موجودة قبل وجود الفرد. يُفهم المجتمع ككيان معين تولد فيه الأفراد، ويُعتبرون جزءاً منه دونما إرادتهم.

2. الجبرية والالتزام:

o وصف دوركايم الظاهرة الاجتماعية بأنها جبرية وملزمة. يعني ذلك أن الفرد ليس حراً في اتباع أو عدم اتباع النظام الاجتماعي، بل يتعين عليه الامتثال له، والمجتمع يحدد العقوبات للانحراف عن السلوك المجتمعي المقرر.

3. العموم والانتشار:

o أكد دوركايم أن الظاهرة الاجتماعية هي عامة، أي أنها موجودة في جميع الأماكن والمجتمعات. لا يمكن أن تقتصر على مكان أو زمان محدد، بل تشمل جميع جوانب الحياة الاجتماعية.

4. الخارجية والمستقلة:

o وصف دوركايم الظاهرة الاجتماعية بأنها خارجية، أي أنها تتجاوز الحياة الفردية. هذا يعني أنها مستقلة عن الأفراد وتكون قائمة بذاتها، مما يمكن من دراستها بشكل موضوعي وعلمي.

من خلال تحديد هذه الخصائص، رسم دوركايم صورة للظاهرة الاجتماعية ككيان قائم بذاته، يتفاعل مع الأفراد ويتحكم في حياتهم الاجتماعية، وهو ما جعلها موضوعاً جوهرياً لدراسته وتفكيره السوسيولوجي.

تطور المجتمع وتأثير البيئة الاجتماعية:

في تفسير دوركايم لتطور المجتمع، أشار إلى مفهوم البيئة الاجتماعية باعتبارها العامل الفعّال الوحيد الذي يؤثر في المجتمع. يجسد هذا المفهوم أهمية العوامل البيئية والتفاعلات الاجتماعية في تشكيل الهياكل المجتمعية وتطوّر الظواهر الاجتماعية. في كتابه "قواعد المنهج في علم الاجتماع"، أشار دوركايم إلى بعض الخصائص التي يتعين على عالم الاجتماع الكشف عنها في هذه البيئة الإنسانية.

1. حجم المجتمع (عدد الوحدات الاجتماعية) :

o يُعتبر حجم المجتمع من الخصائص المهمة التي تؤثر في تطوّر الظواهر الاجتماعية. يشير إلى عدد الوحدات الاجتماعية المكونة للمجتمع، وهو ما يُعبّر عن مدى التنوّع والتعقيد في التفاعلات الاجتماعية.

2. كثافة التركيز (الكتلة الاجتماعية) :

o يشير دوركايم أيضًا إلى درجة تركز المجتمع، أو ما سماها "الكثافة الديناميكية". هنا يعتبر التركيز الروحي والصلات الاجتماعية الوثيقة التي تربط الأفراد، حيث يؤكد أن التركيز المادي يعكس نتائج تلك العلاقات.

3. تأثير البيئة الاجتماعية:

o بالإشارة إلى البيئة الإنسانية، يُظهر دوركايم أنه يجب على عالم الاجتماع أن يركز جهوده في الكشف عن خصائص هذه البيئة التي تؤثر في تطوّر الظواهر الاجتماعية. يعزز أهمية فحص التفاعلات والديناميات التي تحدث داخل هذه البيئة.

تلك الفهم العلمي لتطور المجتمع وتأثير العوامل الاجتماعية يبرز النهج الشامل لدوركايم في استكشاف تفاعلات المجتمع والتأثير المتبادل بين الأفراد والبيئة الاجتماعية.

كثافة المجتمع وتأثير العوامل الاجتماعية:

في تفسير دوركايم، يُلقي الضوء على أهمية كثافة المجتمع وتأثير العوامل الاجتماعية في تطوّر الحياة الاجتماعية. يعتبر دوركايم أن كثافة المجتمع، وفهم الاتصالات وتفاعلاته، هي جوانب بارزة تؤثر في التطوّر والتغيير الاجتماعي.

1. كثافة المجتمع والحياة المشتركة:

o يرى دوركايم أن عدد الأفراد الذين يشتركون في حياة مشتركة يحدد مدى التأثير على الحياة الاجتماعية. كثافة المجتمع تقاس بالعدد والتفاعل بين الأفراد، حيث يؤثر العدد على خدمات المشاركة والتنافس.

2. الالتئام بين الأجزاء الاجتماعية:

o يربط دوركايم بين كثافة المجتمع ودرجة الالتئام بين أجزائه. يعتبر الالتئام مؤشراً على الكثافة الديناميكية، حيث يُظهر تفاعل الأفراد معاً بشكل فعّال.

3. تأثير البيئة الاجتماعية:

o يؤكد دوركايم على أهمية البيئة الاجتماعية وتأثيرها في شكل المجتمع وتطوّر الظواهر الاجتماعية. يُشير إلى أن الحالة التي يعيش فيها المجتمع تخضع لأسباب اجتماعية، سواء كانت تلك الأسباب جزءاً لا يتجزأ من المجتمع نفسه أو نتيجة لتأثير المجتمعات المجاورة.

4. الواقع المادي والأفكار:

o يفتح دوركايم نافذة على فهم الواقع المادي الموضوعي، ويُشير إلى أنه ليس فقط واقعاً اقتصادياً. يعتبر الواقع متداخلاً مع الأفكار والتصورات، ممثلاً في قيم مشتركة تجمع بين الأفراد.

بهذا، يبرز دوركايم أهمية التحليل الاجتماعي الشامل الذي يأخذ بعين الاعتبار الكثافة الديناميكية للمجتمع وتأثير البيئة الاجتماعية على تطوّر الظواهر الاجتماعية.

تقسيم العمل الاجتماعي لإميل دوركايم:

كتاب "تقسيم العمل الاجتماعي" يمثل نقطة تحول في تطور فكر إميل دوركايم، حيث يركز على تحليل العلاقة بين الفرد والمجتمع، ويعرض تصوّره للتضامن الاجتماعي من خلال تفاعل الأفراد.

1. التضامن الآلي والتضامن العضوي:

o يقدم دوركايم تمييزاً واضحاً بين نمطين من التضامن: التضامن الآلي والتضامن العضوي. التضامن الآلي يعكس تشابه الأفراد واندماجهم في قيم ومشاعر متماثلة. في المقابل، يأتي التضامن العضوي نتيجة تباين الأفراد وتعبيراً عن التنوع في الوقت نفسه.

2. التأثير البيولوجي والتماثل الاجتماعي:

o يربط دوركايم تفسيره للتضامن العضوي بالمماثلات البيولوجية. يستعرض الاختلافات الحيوية بين مكونات الكائن الحي ليظهر أنها متغايرة ولكن ضرورية للوظائف الجسدية. يطبق هذا التفكير على التضامن العضوي، حيث يُظهر تباين الأفراد تواجد الالتقاء والتفاعل.

3. التفاعل وتشكيل المجتمع:

o يرى دوركايم أن التفاعل وتباين الأفراد هما جزء أساسي من تشكيل المجتمع. بينما يحقق التضامن الآلي وحدة الأفراد، ينشأ التضامن العضوي من التفاعل والتنوع.

4. أثر أوجيست كونت والمماثلات البيولوجية:

o يظهر تأثر دوركايم بفكر أوجيست كونت والمماثلات البيولوجية في تحليله للتضامن الاجتماعي. يتجاوز تفسيره النقدي للفكر الكونتي ليربط العلاقة بين البيئة الاجتماعية وتكوين المجتمع.

5. آرون وتحليل التضامن:

o يُظهر دوركايم عند آرون كيف أن فكره في "تقسيم العمل الاجتماعي" يعكس التحديات والآفاق في تفكير علم الاجتماع. آرون يبرز أن تحديد دور الفرد وتقييم المجتمع يتم من خلال فهم التضامن الاجتماعي.

6. تحديد العلاقة بين الفرد والمجتمع:

o يركز دوركايم في "تقسيم العمل الاجتماعي" على فهم كيف يحدث التضامن الاجتماعي من خلال تفاعل الأفراد في المجتمع. يقدم تحليلاً متقدمًا للعلاقة بين الفرد والمجتمع، حيث يعزز أهمية الفهم العضوي للتكامل الاجتماعي.

7. الأفكار الرئيسية للكتاب:

o يُظهر كتاب "تقسيم العمل الاجتماعي" أن دوركايم يسعى لفهم العمل الاجتماعي بمفهوم التضامن، وينظر إلى العلاقة بين التمثل الاجتماعي والوعي الفردي.

8. مساهمات في تطور علم الاجتماع:

o يعتبر كتابه هذا إحدى المساهمات البارزة في تطور علم الاجتماع، حيث يعزز أفكاراً حول تشكيل المجتمع وتأثير التفاعل بين الأفراد.

9. الاستمرار في البحث والنقد:

o يشدد دوركايم في كتابه على أهمية مواصلة البحث والنقد في علم الاجتماع. يحث على تطوير الفروع الخاصة لضمان تطور الفهم الاجتماعي.

10. تأثير الكتاب على الدراسات الاجتماعية:

o يظل كتاب "تقسيم العمل الاجتماعي" مرجعاً هاماً للدارسين في مجال علم الاجتماع، حيث أنه ساهم في توسيع الأفق وتفعيل النقاشات حول العلاقة بين الفرد والمجتمع.

11. الأفكار الناشئة:

o يشجع الكتاب على ظهور أفكار جديدة حول الهوية الاجتماعية ودور الفرد في تحديد تكوين المجتمع. يمهد الطريق للدراسات المستقبلية التي تسعى لتطوير فهم أعمق للديناميات الاجتماعية.

كتاب "تقسيم العمل الاجتماعي" لإميل دوركايم لا يمثل فقط نقطة محورية في تاريخ علم الاجتماع، بل يعتبر تحفيزاً للفهم العميق لعلاقة الفرد بالمجتمع. يظل محط إلهام للباحثين والعلماء الاجتماعيين في استكشاف آفاق جديدة للتفاعل الاجتماعي وتأثيره على بنية المجتمعات.

محتوى كتاب إميل دوركايم "قواعد المنهج في علم الاجتماع"، المصدر المذكور، صفحات 70 إلى 74. يقوم دوركايم في هذا السياق بتسليط الضوء على العوامل التي تحول المجتمع من حالة آلية إلى حالة عضوية.

1. التحول من الحالة الآلية إلى الحالة العضوية: يسعى دوركايم إلى فهم كيف يحدث التحول في المجتمع من حالة التماسك الآلي إلى حالة التماسك العضوي. يشير إلى ضرورة فهم الكثافة الاجتماعية والتقسيم الاجتماعي للعمل وأنماط الاتصال كعوامل تساعد على التلاحم بين الأفراد.

2. الكثافة الاجتماعية: يعتبر دوركايم أن الكثافة الاجتماعية هي مفتاح التحول من الحالة الآلية إلى الحالة العضوية. تتيح الكثافة الاجتماعية التفاعل المكثف بين الأفراد، مما يؤدي إلى تكوين اتفاقات وتفاهمات قيمية بينهم.

3. التقسيم الاجتماعي للعمل: يشدد دوركايم على أهمية فهم تقسيم العمل في المجتمع كوسيلة لتحقيق التكامل. يُظهر كيف يعمل التخصص والتبادل في تقسيم العمل على تعزيز التلاحم الاجتماعي وبناء روابط بين الأفراد.

4. أنماط الاتصال: يربط دوركايم بين أنماط الاتصال في المجتمع وبين فهمه للتحول من الحالة الآلية إلى الحالة العضوية. يفسر كيف تسهم أنماط الاتصال في تشكيل التفاهم والتعاون بين أفراد المجتمع.

5. أبعاد المنهج في البحث الاجتماعي: يُسلط دوركايم الضوء على أبعاد منهجه في دراسته للظواهر الاجتماعية. يشير إلى ضرورة دراسة هذه الظواهر كأشياء موضوعة للبحث، مما يعزز نهجاً أكثر تحليلاً وواقعية.

6. أساليب البحث: يستخدم دوركايم في بحوثه مجموعة من الأساليب مثل الملاحظة والمقارنة، وتتبع تطور الظاهرة. كما يشجع على تفسير الظواهر بشكل وظيفي، من خلال فهم دورها وأدوارها في السياق الاجتماعي الشامل.

توفير هذه الفهم يعزز تقدير دوركايم للديناميات الاجتماعية وكيفية تحول المجتمعات.

في نهاية رحلته العلمية، يتجه إميل دوركايم نحو هدف مجتمعي هام، وهو الكشف عن القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية. يركز دوركايم على هذا المسعى العلمي بهدف محدد، وهو علاج المشكلات الاجتماعية وتحقيق التضامن الاجتماعي المنشود وتنظيم العمل الوظيفي بشكل فعّال. يمثل هذا التوجه العلمي استجابة لاحتياجات المجتمع وتحسين الوضع الاجتماعي.

1. تحديد القوانين الاجتماعية: دوركايم يتوجه نحو فهم القوانين التي تحكم سلوكيات وظواهر المجتمع. يعتقد أن فهم هذه القوانين يمكن أن يوفر إطاراً علمياً لفهم التفاعلات الاجتماعية والتأثيرات الناتجة عنها.

2. هدف مجتمعي: يكمن المسعى العلمي في خدمة المجتمع من خلال الكشف عن القوانين الاجتماعية. يهدف إلى تحسين الظروف الاجتماعية وحل المشكلات التي تواجه المجتمعات، مما يسهم في تحقيق التضامن الاجتماعي المرغوب.

3. تأكيد الفائدة العلمية: يربط دوركايم بين الأبحاث العلمية والفوائد العملية. يعتبر أن علم الاجتماع لا يستحق الاهتمام إلا إذا كان له فوائد عملية تسهم في تعزيز الأوضاع القائمة في المجتمع.

4. تحقيق التضامن الاجتماعي: يعتبر دوركايم التضامن الاجتماعي هدفاً مهماً يجب تحقيقه. يرى أن فهم القوانين الاجتماعية يمكن أن يكون مفتاحاً لتحقيق تلك الحالة المرغوبة من التوازن والتفاهم في المجتمع.

5. تنظيم العمل الوظيفي: يعتبر تنظيم العمل الوظيفي بشكل فعّال ضرورياً لتحقيق التضامن الاجتماعي. يشير إلى أهمية فهم كيفية توزيع الأدوار والمسؤوليات في المجتمع لضمان التفاعل السلس والتعاون.

رابعاً : بعض الانتقادات التي وجهت الى دوركايم

إلى جانب الجهد الهام الذي بذله إميل دوركايم في تطوير نظريته الاجتماعية، لاحظ البعض بعض الانتقادات التي وُجهت إليه. تلك الانتقادات تلقَّت جوانب مختلفة من أفكاره وأسلوبه، وقد تمثلت فيما يلي:

1. قلة الصدق العلمي: بعض النقاد اعتبروا أن مخرج دراسات دوركايم، خاصةً كتاب "تقسيم العمل"، يعاني من نقص في الصدق العلمي. اعتبروا أن تصنيفه للظواهر الاجتماعية كأشياء قابلة للدراسة لم يتمتع بالشفافية الكافية، ولم يوفر تفسيرًا كافيًا لظاهرة تقسيم العمل.

2. تأثره بآراء الآخرين: انتقد البعض دوركايم بسبب اعتماده على آراء مفكرين آخرين مثل سان سيمون وأوجست كونت، مما جعل نظريته تبدو أقل أصالة. اعتبروا أنه لم يتمكن من إيجاد مسار فريد لنفسه واستنباط فكره المستقل.

3. ضعف في التفسير: اعتبر البعض أن كتاب "تقسيم العمل" يعتبر ثانوياً وسطحياً في تفسير تقسيم العمل، حيث لم يقدم دوركايم تفسيراً كافياً للسبب وراء حدوث تلك الظاهرة في المجتمع.

4. الاعتماد على المماثلات البيولوجية: انتقد البعض استخدام دوركايم للمماثلات البيولوجية في علم الاجتماع، مثل الاستشهاد بالتشابه بين الحياة الاجتماعية والحياة العضوية. اعتبروا أن هذا النهج يجعل نظريته تبدو أقل تطبيقية وأكثر تجريبية.

5. التركيز على الجوانب النفسية: انتقد بعض الباحثين تحول دوركايم نحو التركيز على الجوانب النفسية والتفسير السيكولوجي للظواهر الاجتماعية. اعتبروا أن هذا التوجه يقلل من قيمة التحليل السوسيولوجي الذي كان يعتبرهم به.

على الرغم من هذه الانتقادات، لا يمكن إنكار إسهامات دوركايم الكبيرة في تطوير ميدان علم الاجتماع والتفكير الاجتماعي.

على الرغم من الإسهامات الكبيرة لإميل دوركايم في تطوير علم الاجتماع، إلا أنه واجه انتقادات حول تأثيره بأفكار وآراء مفكرين آخرين وتناقضات في نهجه الفكري. من بين الانتقادات التي وُجهت إليه، يتمثل الجزء الذي أشرت إليه في:

تأثير مفكرين آخرين والتناقض : تم توجيه انتقادات إلى دوركايم بسبب تأثيره الكبير بأفكار مفكرين آخرين مثل سان سيمون وأوجست كونت. اعتبر البعض أن هذا التأثير جعل نظريته أقل أصالة، وتسبب في تناقض في نهجه الفكري. على سبيل المثال، عندما أراد إنكار الفردية والتأكيد على الوضعية، اضطر إلى التحول إلى التوجه السيكولوجي، مما جعله ينتهي باتخاذ موقف يتناقض مع مبادئه الأولية في علم الاجتماع.

تأثير ماركس: يتفق بعض العلماء مثل رايت ميلز وإرفينج زايتلن وألفن جولدنار على أن دوركايم تأثر بشكل كبير بأفكار كارل ماركس، خاصة فيما يتعلق بقضية الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي. هذا التأثير يظهر في تحليله للتضامن الاجتماعي والتماسك في المجتمع، ولكن قد انتقد بعض الآخرين هذا التأثير بسبب عدم تمايزه بين النواحي الاقتصادية والاجتماعية بشكل كاف.

على الرغم من هذه الانتقادات، يظل إميل دوركايم أحد الرواد الرئيسيين في علم الاجتماع، وتأثيره يظل واضحاً في تطوير الفهم الاجتماعي والمساهمة في النقاشات الحديثة حول الهوية الاجتماعية والتضامن في المجتمع.

في تحليل فرايت ميلز، يُشير إلى أن إميل دوركايم قرأ أفكار كارل ماركس وكان يتطلع إلى تأكيد العكس من ماركس بشأن أسبقية الوجود على الوعي. في حين كانت نظرية ماركس تؤكد على الأساس الاقتصادي للوجود ودور العوامل الاقتصادية في تشكيل المجتمع والوعي، حاول دوركايم إلقاء الضوء على أبعاد أخرى للتضامن الاجتماعي والتماسك في المجتمع.

من جهة أخرى، يرى زايتلن أن دوركايم كان يتناقل في أفكار ماركس وكأنه كان يحاكيه، وهو يأخذ مفاهيم ماركس ويقوم بإعطائها لمسة شخصية. بينما يقدم جولدنر رؤية مختلفة حيث يرى أن دوركايم حاول التماهي مع ماركس وخالفه في آن واحد. يعتبر جولدنر أن دوركايم أكسب مفهوم المجتمع وجودًا اجتماعيّاً أوسع، معتبراً أن كل المجتمع هو وجود اجتماعي بمعنى أنه يتعدى العلاقات الإنتاجية.

في هذا السياق، يُظهر تأثر دوركايم بماركس في التأكيد على أهمية الوجود الاجتماعي ككل وعلى التفاعلات الاجتماعية التي تسهم في بناء التضامن والتماسك. وتشير تلك الآراء المختلفة إلى التنوع في فهم دوركايم وتأثيره، مما يبرز القدرة على إحداث تطور في علم الاجتماع وتطوير الفهم حول الظواهر الاجتماعية المعقدة.

في الختام، يمثل إميل دوركايم الشخصية الرئيسية والمؤسس البارز لعلم الاجتماع في الساحة الأكاديمية. بفضل رؤيته الفريدة وإصراره على تمييز الدراسات الاجتماعية عن الفلسفة والنفسية، نجح في تأسيس علم الاجتماع كمجال أكاديمي مستقل. ومن خلال تأسيسه لكرسي أكاديمي لعلم الاجتماع في الأكاديمية الفرنسية، شهدنا ظهور علم الاجتماع بشكل مؤسسي.

كانت جهود دوركايم تركز على التأكيد على أن الظواهر الاجتماعية قابلة للدراسة بشكل مستقل وعلمي، ويمكن قياسها وفهمها. في كتابه "قواعد المنهج"، حاول دوركايم تسليط الضوء على المنهجية العلمية لدراسة هذه الظواهر.

دراسته لظاهرة "الانتحار" تعد مثالاً نموذجياً للتحليل الاجتماعي الذي نفى فيه الجوانب النفسية وركز على الأبعاد الاجتماعية. ولا يمكن تجاوز أهمية دراسته "تقسيم العمل الاجتماعي" التي ناقش فيها تحولات المجتمع الحديث.

على الرغم من أن بعض الفكر والمفاهيم التي أسسها دوركايم لا تزال حية في الدراسات الاجتماعية المعاصرة، فإن مدرسته "الوظيفية" تواجه نقداً حاداً من قبل العديد من علماء الاجتماع اليوم. يعتبرون أن هذه المدرسة تعتمد بشكل زائد على استمرارية الحالة القائمة وتغافل التحولات الاجتماعية الديناميكية. باختصار، يظل إميل دوركايم شخصية ذات تأثير كبير في مجال علم الاجتماع، ورغم النقاشات حول أفكاره، فإن إرثه يظل محور اهتمام للدارسين في العلوم الاجتماعية.

في نهاية المطاف، يظل إميل دوركايم هو منارة في علم الاجتماع، حيث قام بتسليط الضوء على أهمية دراسة الظواهر الاجتماعية بشكل علمي ومستقل. عمله على تأسيس علم الاجتماع ككيان أكاديمي وفصله عن المجالات الفلسفية والنفسية أعطى لهوية العلم الاجتماعية تميزاً خاصاً.

دوركايم أسس مدرسة الوظيفية التي لا تزال لها تأثيرها في الدراسات الاجتماعية، ورغم التحفظات التي وُجِهت لبعض من آرائه، يظل إرثه حياً ومؤثراً. تعد دراسته للتحولات الاجتماعية في "تقسيم العمل الاجتماعي" واحدة من أهم الأعمال التي ساهمت في فهم التغيرات في المجتمع الحديث.

ترك دوركايم بصمته أيضاً في الدراسات الاجتماعية حول الدين، حيث نقض رؤى معاصريه حول العقائد الدينية وأسس لفهم جديد لتأثير الدين على المجتمع.

وعلى الرغم من تلقي تدريسه وأفكاره نقداً بعضها، يبقى دوركايم نموذجاً حياً للعلماء والباحثين الذين يسعون إلى إثراء الفهم حول التفاعلات الاجتماعية وديناميات المجتمع. إن مساهماته الفريدة تجعله أحد الرواد الذين وضعوا أسس علم الاجتماع وألهموا الأجيال اللاحقة في رحلتهم لاستكشاف غموض الحياة الاجتماعية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

1. Émile Durkheim: "The Division of Labor in Society," 1989. 2. Émile Durkheim, "The Rules of Sociological Method," translated by Mohamed Qassem. 3. Mohamed Atef Gheit, "Sociology: Theory, Method, and Subject," Dar Al-Qahira. 4. Abdel-Basset Abdel-Moaty: "Theoretical Trends in Sociology," Series "World of Knowledge," 1981. Global Sociology

X

تحذير

لا يمكن النسخ!