مجلة دمع القلم
أيّها القارئ الذي لا يكتفي بأن يقرأ، بل يستنطق الحرف، ويسأل الورق عن معنى العتمة،
أيّها العابرُ في صحراء الزمن، الباحثُ عن ظلّ الكلمة في هجير الخديعة،
أيّها المنفيّ من بلاده، والمنحازُ إلى عقله، كما ينحاز القلب إلى ألمه النبيل...
نُغلق هذا العدد، لا كمن يطوي صفحة، بل كمن يطوي جناحاً ليهبط قليلاً قبل أن يعاود التحليق. نكتب، لا لأنّ لدينا ما نقوله فقط، بل لأنّ الصمت بات ضيقاً كقيدٍ حول عنق الروح. نكتب، لأننا ببساطة، لا نستطيع ألا نكتب.
في حزيران، لا تُثمر الأشجار وحدها، بل تثمر الأسئلة أيضاً، وتزهر الخسارات، وتتكشّف وجوهٌ طالما أخفاها الحياء. حزيران ليس شهراً عاديّاً، بل ذاكرةٌ ملغّمة. هو الموعد الذي كثيراً ما نُذبح فيه باسم الواقعية، ويُشنق فيه الحلم على شرفة المساومات. فيه انكسرت خرائط، وتلاشى الحبر في مقابر القصائد، لكنّه – في الوقت ذاته – بقي كأصبعٍ متّهم يشير إلى السماء، لا ييأس من المطر.
في هذا العدد،
لم نكن نقّاداً، ولا مجرّد حرّاسٍ للبلاغة، بل كنّا شهوداً على خيانة الكلمات حين تفقد معناها، وكنّا أطباءً يعيدون النبض إلى الحروف التي دخلت غيبوبة، وكنّا عشّاقاً لا يخافون أن يُقبّلوا الحقيقة، حتى لو كانت وجعاً.
كتبنا، لأنّ الكتابة فعلُ مقاومة لا تقلّ قداسة عن الصلاة، ولا خطورة عن الرصاصة. كتبنا، لأنّ اللغة ليست أداة تزيين، بل طريقاً إلى العدالة، ومرآةً للخلل، وسلاحاً أخيراً حين تسقط كل الأسلحة.
حزيران...
ذاك الغريب الذي يحمل تحت جلده ذاكرةَ المذبحة وابتسامةَ الطفل.
فيه تهطل الذكريات، لا كحنين، بل كاستجواب.
فيه نُسائل أنفسنا: كم مرةً خنقنا القصيدة كي نُرضي قاطع طريق؟
وكم مرةً صافحنا الاستبداد بحروفٍ رخوة خشية العُزلة؟
وكم مرةً صمتنا، لا لأننا حكماء، بل لأنّ الصوت كان مكلفاً أكثر من اللازم؟
لكننا – في دمع القلم – ما زلنا نؤمن أنّ اللغة لا تُشترى، وأنّ الكلمة التي لا تجرح لا تُشفى، وأنّ الحرف الذي لا يخدش وجه السلطة، مجرّد ديكور ثقافيّ في بيت الطغيان.
نحن نكتب لنكشف، لا لنتجمّل. نكتب كي لا نموت ونحن واقفون. نكتب، لأنّ الخيانة الأولى تبدأ حين نصمت باسم "التعقّل"، وتموت القصيدة حين تُساوم.
أيّها الأصدقاء،
لا تُصدّقوا من يقول إنّ الثقافة حيادية، أو أنّ الأدب يجب أن "يُلهم" فحسب. فالأدب الحقيقي لا يُلهم فقط، بل يُزعج، ويُعرّي، ويُحرّض. لا تُصدّقوا من يُطالب الشاعر بأن يكون خفيفاً كأغنية صيف، ولا تُنصتوا لمن يريد من القصيدة أن ترقص بدلاً من أن تشهق.
اجعلوا أقلامكم سكّيناً تُقطَع به الأكاذيب، واجعلوا وجدانكم وقوداً للصفحات التي لم تُكتَب بعد.
فالعالم لا يحتاج إلى مزيدٍ من الأحاديث اللطيفة، بل إلى عاصفةٍ من الكلمات الشرسة.
نحن لا نكتب لنجعل القارئ سعيداً... بل لنمنعه من أن ينام وهو يبتسم للخطأ.
وإن سألَكم أحدهم:
"ما نفع مجلةٍ تُدعى دمع القلم؟"
فقولوا له:
"إنها المجلة التي لم تُدر وجهها يوم انكسر الإنسان، ولم تكتفِ بالبكاء، بل دوّنت الدمع كي لا يُنسى."
نلقاكم في العدد القادم، حين تشتدّ الحاجة إلى الحرف كما يُحتاج إلى الهواء، حين تحمرّ السماء من صمتنا، وحين لا يبقى لنا إلا أن نفتح قلوبنا، لا لنحبّ فقط، بل لنشهد.
ودمتم... للمعنى، ودام القلم لا يطلب إذناً كي يكتب، ولا يطلب الصفح من الذين خانوا الحقيقة باسم الواقعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع تحيات أسرة التحرير
مجلة دمع القلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اقرأ إلكترونيا من خلال الرابط التالي
https://online.fliphtml5.com/uczyba/ehyc/#p=1
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للقراءة أو تنزيل العدد أضغط الملف في الأسفل