في حضرة الغياب: تأملات في لقاء الفراق
بقلم: د. عدنان بوزان
في أعماق الكينونة، حيث تتداخل أبعاد الوجود وتتقاطع الأفكار مع التجارب، يقف الإنسان أمام ذاته متسائلاً: كيف يمكن أن تجتمع الروح مع ما تفرق؟ كيف يمكن للزمان والمكان، وهما متغيران لا يعرفان الثبات، أن يشكّلا وحدة يلتئم فيها الفراق باللقاء؟ هذه الأسئلة ليست مجرد تأملات عقلية، بل هي نوافذ تفتح على قلب الفلسفة الإنسانية العميقة، حيث تختلط مفاهيم الحضور والغياب في لوحة معقدة من التجارب.
الفراق ليس مجرد غياب الجسد أو انفصال الأرواح؛ إنه تجربة داخلية تعكس صراعاً دائماً بين الذات والآخر. ففي لحظة الفراق، تتبدد الصور، تتلاشى الأصوات، وتبقى الذكريات كشظايا متناثرة تحاول الروح أن تجمعها لتخلق منها وحدة جديدة. هنا يبرز السؤال الفلسفي: هل يمكن للروح أن تخلق حضوراً جديداً من قلب الغياب؟ كيف يمكن أن يلتقي الفراق باللقاء في فضاء يمتد بين الحاضر والماضي، بين الممكن والمستحيل؟
إن الغياب، من وجهة نظر عميقة، ليس غياباً تاماً، بل هو حضور متحوِّل. في كل لحظة من لحظات الفقدان، نجد أنفسنا مشدودين نحو استحضار ما كان، وكأننا نحاول إعادة بناء الصورة التي تلاشت. ولكن هل هذه الصورة هي ذاتها التي عشناها؟ أم أن الحلم الذي نعيشه في الغياب ليس إلا انعكاساً مشوهاً للواقع؟ هنا تدخل الفلسفة في عمق السؤال الإنساني: هل ما نفتقده هو حقاً ما نحتاجه، أم أن افتقادنا يخلق فينا شعوراً زائفاً بالاحتياج؟
في عالم تتداخل فيه الحقائق مع الأوهام، تصبح الروح، تلك الكينونة غير المرئية، باحثة عن معنى جديد، عن وحدة تجمع ما تفرق. الفراق واللقاء لا يتعارضان في الجوهر، بل يكملان بعضهما البعض؛ فكلاهما جزء من الدورة الطبيعية للوجود. إننا في الحقيقة لا نلتقي إلا بعد الفراق، ولا نفترق إلا لأننا سنلتقي من جديد في لحظة أخرى، في زمن آخر، في حالة أخرى من الوعي.
الحلم هنا يأخذ بُعداً فلسفياً أعمق. الحلم ليس مجرد حالة فرار من الواقع، بل هو وسيلة أخرى لفهم الواقع ذاته. في الحلم تتبدد الحدود بين الممكن والمستحيل، بين الحضور والغياب. إنه فضاء يتجاوز الزمان والمكان، حيث تتحرر الروح من قيود الجسد لتسبح في عالم من الأفكار والذكريات. لكن هل يمكن للحلم أن يصبح حقيقة؟ أم أن الحقيقة هي ما نراه فقط عندما نكون يقظين؟ الفلاسفة طالما تساءلوا عن هذا الحلم الذي يعيشه الإنسان في حياته اليومية، عن تلك اللحظات التي يختلط فيها الواقع بالوهم، حيث يصبح الغياب حضوراً، والحلم واقعاً.
ومن هنا تأتي الفكرة الأساسية: الروح لا تتجزأ، حتى وإن بدا ذلك في الظاهر. الروح تظل دائماً جزءاً من الكل، حتى في لحظات الفراق، وحتى في أعمق لحظات الغياب. تلك الوحدة التي تبدو لنا مفقودة ليست إلا وهماً خلقته حدود إدراكنا. في جوهر الأمر، الروح دائماً في حالة لقاء مع نفسها، مع الآخر، مع الوجود. الفراق ليس إلا حالة مؤقتة، مرحلة انتقالية نحو شكل جديد من أشكال الوجود.
إذن، كيف يلتقي الفراق باللقاء؟ إنه ليس لقاءً مادياً، بل هو لقاء على مستوى الوعي، على مستوى العمق الروحي. في كل مرة نفترق، نخلق في داخلنا مساحة جديدة للفهم، للتأمل، للاتصال بما هو أعمق من التجربة الحسية. الروح تجمع ما تفرق، ليس عبر استعادة الماضي كما كان، بل عبر خلق حاضر جديد، حاضر ينبض بالحياة، بالذكرى، بالمعنى.
هكذا تصبح الأرواح، في جوهرها، حاضرة في كل مكان، في كل زمان. الغياب لا يلغيها، بل يضيف إليها بُعداً آخر. الفلسفة تقول لنا إن الحقيقة ليست ما نراه بأعيننا، بل ما نشعر به في أعماقنا، في تلك اللحظات التي يلتقي فيها الفراق باللقاء، ويتحول فيها الغياب إلى حضور. الروح دائماً في حالة حركة، في حالة بحث عن الوحدة التي تجمع شتاتها، وفي النهاية، تجد تلك الوحدة في داخلها، في عمق تجربتها الإنسانية.
وهكذا، في نهاية المطاف، نتعلم أن الغياب ليس سوى مرحلة من مراحل الحضور، وأن الفراق ليس إلا مقدمة للقاء أعمق وأصدق. الروح تعرف ذلك في صميمها، وتستمر في رحلتها عبر الزمان والمكان، باحثة عن تلك اللحظة التي يذوب فيها الفراق في اللقاء، ويصبح الغياب جزءاً لا يتجزأ من الحضور الأبدي.