بقلم: د. عدنان بوزان
في حقولِ العمرِ الممتدّةِ كلوحةٍ من ضياءٍ وظلال، لا يُثمرُ القلبُ إلا ما غَرَسهُ صاحبهُ بيديه، فالحياةُ أرضٌ خصبةٌ لمن يُحسنُ زراعتها، وقاحلةٌ لمن أهملَها وتركها نهباً للرياح. إنّ الحبَّ الذي تزرعُهُ اليومَ هو القمحُ الذي ستَحصدُهُ غداً، وهو السنابلُ التي ستنحني لعطائك، وهو الثّمرُ الذي سيُطعمُ جوعَ روحِك حين تجفُّ ينابيعُ الأيام.
ألم ترَ كيفَ تعانقُ السنابلُ الريحَ، وتتمايلُ تحتَ ثقلِ العطاء، مُطرِقةً برأسها في خشوعِ الامتنان؟ كذلك هو الحبُّ حين يُمنَحُ بصدق، يُنبتُ في دروبِ الأيام ظلالاً وارفةً، ويكسو الأرواحَ بحُللٍ من نور. فازرعِ الحبَّ حيثما حللتَ، ودعْهُ يتسلّلُ كالنورِ إلى القلوب، كالمطرِ إلى الصحارى العطشى، وكالنَّسيمِ الذي يُداعبُ وجوهَ المتعبين بلُطفِ المساء.
إنَّ البذرةَ الصغيرةَ التي تُلقيها في الأرضِ اليومَ، قد تُصبحُ غداً شجرةً وارفةَ الظلال، وكلمةُ الطِّيبِ التي تُنثَرُ بصدقٍ في قلبٍ مُنهكٍ، قد تُنيرُ عتمتَه، وتُزهرُ في روحهِ حقولاً من الياسمين. فكيفَ بمن يملأُ الأرضَ حبّاً؟ كيفَ بمن يسقيها باللينِ والصّفحِ، ويرويها بالودِّ والوصال؟ أليسَ جزاؤهُ أن يُظلَّلَ بمثلِ ما أعطى، وأن يملأَ العمرُ بينَ يديه سنابلَ ذهبيةً لا تعرفُ الخُسران؟
تأمَّلِ الأرضَ بعدَ مواسمِ الجفاف، كيفَ تُزهرُ حينَ يأتيها المطرُ؟ كيفَ تُبعَثُ من رحمِ الجدبِ حينَ تمتدُّ إليها يدُ العطاء؟ كذلكَ القلوبُ، لا يوقظُها من سباتها إلا حبٌّ خالصٌ يُروى بإخلاص، ولا تُزهرُ إلا إذا أُحسِنَ زرعُها، ولا تمنحُ الوفاءَ إلا لمن ألقى إليها بذورَه بصدقِ النوايا.
لا تَخشَ أن يضيعَ عطاءُ يدِك، فكلُّ نبتةٍ تُغرسُ في أرضِ الحبِّ ستُثمرُ يوماً ما، وكلُّ لمسةِ حنانٍ تُهدى إلى القلوبِ ستعودُ أضعافاً، كما تعودُ السنابلُ مُحمّلةً ببركاتِ الحصاد. ازرعِ الحبَّ حيثما كنت، واجعلْ من قلبِك أرضاً تُنبتُ الوُدَّ أينما حللتَ، فإنَّ السنابلَ لا تخونُ من زرعَها، ولا تُنكرُ الأرضُ من حرثَها بوفاء.