بقلم: د. عدنان بوزان
في أعماق التاريخ الكوردي، يتردد صدى أسماء نادرة استطاعت أن تحفر وجودها في وجدان الأمة، ومن بينهم الفنان والمغني محمد شيخو، الذي لم يكن مجرد صوت يصدح بالألحان، بل كان روحاً نابضة تحمل في طياتها آلام شعبه وأحلامه. وُلِد محمد شيخو، الملقب بـ"بافي فلك"، في التاسع من مارس عام 1948 في قرية خجوكي، الواقعة في ريف القامشلي بسوريا، ليصبح لاحقاً رمزاً فنياً خالداً للأغنية الكوردية القومية.
- بدايات النشأة والمسيرة الموسيقية:
نشأ محمد شيخو في بيئة ريفية بسيطة، حيث درس المرحلة الابتدائية في قريته، قبل أن يكمل تعليمه الإعدادي في القامشلي. لم تكن الحياة سهلة عليه، فقد اضطر في مرحلة مبكرة إلى العمل في الزراعة لمساعدة عائلته في مواجهة قسوة الحياة. رغم هذه التحديات، كان للقرية الريفية والطبيعة المحيطة بها تأثير كبير في تشكيل شخصيته الفنية، إذ استلهم من بيئته الريفية إيقاعاته الموسيقية وصقل موهبته الغنائية.
في تلك الفترة، كانت الموسيقى تتسلل إلى روحه شيئاً فشيئاً، فوجد في الألحان سلاحاً يعبر به عن وجدانه. في قرية "خربي كرما"، التقى بالفنانين الكبار خليل يزيدي، حسين طوفي، وحليم حسو، الذين قدموا له دعماً فنياً كبيراً. رافقهم في حفلاتهم وأمسياتهم، وبدأت تجربته الغنائية تتبلور شيئاً فشيئاً، ليتحول من مجرد هاوٍ إلى فنان واعد يحمل قضية شعبه في صوته.
- بيروت: محطة التحول الفني:
عام 1970، انطلق محمد شيخو إلى بيروت لدراسة الموسيقى، وهناك وجد نفسه في قلب مشهد فني نابض بالحياة. كانت بيروت في تلك الفترة تحتضن كبار الفنانين، ومن خلال انضمامه إلى "لجنة الفن الكردي في لبنان"، وجد الفرصة للتعبير عن موهبته، حيث شارك مع فناني المهجر الكورد في إحياء الحفلات والمهرجانات التي كانت تهدف إلى دعم القضية الكوردية.
في عام 1972، كان لمحمد شيخو موعد مع التاريخ، حين وقف على خشبة "سينما ريفولي" في بيروت بحضور شخصيات سياسية بارزة، من بينها رئيس الوزراء اللبناني الأسبق صائب سلام. هناك، صدح صوته بأغانٍ حملت هموم وطنه، ليُصبح عضواً في اتحاد فنانين لبنان، ويتعرف على أساطير الطرب العربي مثل فيروز، وديع الصافي، نصري شمس الدين، وسميرة توفيق.
- رحلة إلى بغداد وكوردستان العراق:
مع تصاعد شهرته، توجه محمد شيخو عام 1972 إلى بغداد حيث سجل مجموعة من أغانيه في القسم الكوردي بإذاعة بغداد، ثم زارها مجدداً عام 1973، حيث وجدت أغانيه طريقها إلى مسامع الكورد في العراق عبر إذاعتي بغداد وكركوك. لم يكن فنه مجرد غناء، بل كان صوتاً ملهماً للثورة، فالتقى في تلك الفترة بالزعيم الكوردي الملا مصطفى البارزاني، الذي كرّمه ومنحه علم كوردستان تقديراً لدوره الوطني.
- المنفى والموسيقى في كوردستان إيران:
مع تصاعد الضغط الأمني عليه في سوريا، اضطر إلى الفرار إلى كوردستان العراق، وانضم إلى صفوف البيشمركة بعد توقيع اتفاقية الجزائر عام 1975. لكنه وجد نفسه مجبراً على اللجوء إلى كوردستان إيران، حيث أقام في معسكر "ربت". في تلك الفترة، أصدر ألبومه الشهير "أي فلك" الذي أصبح علامة فارقة في مسيرته الفنية، حيث عبّر فيه عن معاناة شعبه بآهات نابعة من القلب.
في إيران، درس اللغة الفارسية ودرّس اللغة العربية، لكنه لم يستطع أن يهرب من سحر الحب، فقد وقع في غرام طالبته نسرين حسين ملك، ابنة أحد زعماء البيشمركة. قصة حبهما لم تكن سهلة، لكنها أثمرت عن زواج رزق منه بأربعة أبناء، فلك، إبراهيم، بروسك، وبيكس الذي توفي لاحقاً.
- العودة الأخيرة والموت في صمت:
بعد الثورة الإسلامية في إيران، واجه محمد شيخو اتهامات سياسية كادت أن تودي بحياته، لكنه نجا منها وعاد إلى القامشلي عام 1983. هناك، أسس فرقة موسيقية، وواصل تسجيل أغانيه التي حملت طابعاً قومياً، ما أدى إلى ملاحقته مرة أخرى من قبل السلطات السورية. في عام 1987، أغلق استوديو "فلك" الذي أسسه، ليصبح تحت رقابة مشددة.
في عام 1989، فاجأ المرض محمد شيخو، ليُنقل إلى المستشفى الوطني في القامشلي، حيث رحل عن عالمنا في التاسع من مارس، وسط جنازة مهيبة شارك فيها الآلاف، مودعين فنانهم الذي غنى لهم "عندما أموت، أيها الأحياء، لا تدفنوني، مثل الجميع، كل آذار، أيقظوني". لم تكن مجرد كلمات، بل كانت وصية فنان لم يمت صوته، بل ظل يُردد في أروقة الزمن.
- إرث خالد:
محمد شيخو لم يكن مجرد مغنٍّ، بل كان ضميراً فنياً للشعب الكوردي، حملت أغانيه ثورته، وأحلامه، ومعاناته. رغم رحيله، إلا أن صوته لا يزال يصدح في وجدان كل كوردي، شاهداً على مسيرة نضال لم تتوقف، وحلماً لم يمت.
- رثاء الفنان الكوردي محمد شيخو:
في ذكرى رحيلك، أيها الصوت الذي حمل آلام وأحلام شعبه، نقف أمام ذكراك بحزن ممزوج بالفخر. كنتَ أكثر من فنان، كنتَ روحاً تغني للحرية، وللأرض، وللحب الذي لا يموت. صوتك الذي شق صمت القهر، ما زال حياً في وجداننا، يعانق الجبال والوديان، ويرتفع مع كل نسمة تهب على وطنك الذي أحببته بصدق.
محمد شيخو، يا طائر الكورد الذي حلّق في سماء الفن النقي، كنتَ تغني وكأنك تنسج من الألم أغنية، ومن الأمل حلماً لا ينطفئ. رحلتَ جسداً، لكنك بقيت نوراً في قلوب العاشقين لفنك، والمخلصين لقضيتك.
سلام عليك في الخلود، وسلام على أوتارك التي لم تكسرها الأيام، وعلى كلماتك التي ما زالت تتردد على شفاه العشاق، وسلام على القلب الذي نبض بصدق حتى آخر لحظة.
نم قرير العين يا فنان الشعب والقضية، فقد تركتَ إرثاً لا يزول، وصوتاً لا يُنسى.