بقلم: د. عدنان بوزان
ما من حقيقة أصدق من تلك التي ترويها الأيام، وما من درس أعظم من درس التاريخ. الزمن يمضي، والأجيال تتغير، لكن الحقيقة الكبرى تبقى ثابتة، كالشمس التي لا تغيب. "الله حق"، حق لا يقبل التفريط، ولا التسويف، حق لا يعترف بالجغرافيا ولا بالعرق ولا باللون. هو الحق الذي يسري في عروق المظلومين في كل مكان، وفي قلب كل شعب جريح. لا أحد يستطيع الهروب من شروط هذه الحقيقة الكونية: الجميع سيتذوقون بنفس الكأس السم الذي شرب منه الكورد.
لقد كان الكورد، في جميع مراحل تاريخهم، ضحية للظلم المتجدد. وما ذاقوه من قسوة لم يكن مجرد فصل عابر من فصول التاريخ، بل هو قصة مأساة مستمرة، تكاد لا تنتهي. شعب ظل يعاني لعقودٍ من الزمان، لا لشيءٍ إلا لأنه اختار أن يكون موجوداً، اختار أن يكون له صوت، اختار أن يحمل في قلبه هوية لا يرغب أن يتنكر لها. أتعرفون ما هو أفظع من أن يُجَرَّد الإنسان من حقوقه؟ أن يُجَرَّد من ذاته، من هويته، من تاريخه، من كل ما يربطه بماضيه وحاضره.
لنعد قليلاً إلى الوراء، إلى الجروح التي لا تزال تنزف، وإلى الأسئلة التي تتردد في آذاننا بصوت متقطع، فتحتل تفكيرنا: لماذا؟ لماذا وقع الكورد في فخ النسيان؟ لماذا، في وقت كان فيه العالم يشهد تطوراً وتقدماً، كانت هذه الأرض تدفع أبناءها نحو الهاوية؟ لماذا ظل صوتهم مغيباً، وحقوقهم مصادرة، وأرواحهم مُهانة؟ هل لأنهم اختاروا، يوماً، أن يكونوا مختلفين عن باقي الأقوام؟ هل لأنهم عاشوا بين خيوط الأمل في بناء وطن منفتح على التعددية والمساواة؟ هل لأنهم حلموا بحياة أفضل لشعبهم، بعيداً عن رياح الظلم والمشاعر القومية الضيقة؟ أم لأنهم، ببساطة، رفضوا الانصهار في بوتقة الأكاذيب التي يروجها الطغاة؟
إن الحقيقة التي يجب أن تُقال بصوت عالٍ هي أن ما ذاقه الكورد هو نفسه ما قد يذوقه أي شعب آخر يقف في وجه الطغيان. فتجاربهم تتكرر في كل مكان، وتاريخهم يلتقي بتواريخ الآخرين ليعلمنا درساً مريراً: القهر لا يفرق بين الأجناس، ولا يعترف بالحدود، والظلم الذي يُفرض على مجموعة هو في جوهره ظلم لجميع البشر. وما كان للكورد أن يتحملوا هذا السم القاتل في عروقهم لولا أن الأزمات السياسية والنزاعات الإقليمية جعلت من شعوبهم وقوداً لصراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
ما أعظم الدرس الذي يجب أن نستخلصه من هذه المأساة! ليس الكورد وحدهم من يتذوقون مرارة هذا الكأس، بل كل من يعتقد أن الظلم يمكن أن يمر دون حساب، وكل من يظن أن الظلام سيظل بعيداً عنه، وأن التاريخ لن يعود ليطالب بحقوقه. الله حق في عدالتك، لا يمكن أن يظل أحد بعيداً عن ثوابته، ولن يهرب أحد من عواقب الظلم مهما طال الزمان. فكما شرب الكورد هذا السم، سيتذوقه الجميع في النهاية، إن عاجلاً أو آجلاً.
أينما كانت الجدران التي تُبنى لتفصل بين البشر، وأينما كان الظلم يُزرَع لتشتيت الأمل في النفوس، هناك سيجد الله الحق طريقه. لا ملاذ في هذا العالم من الحقيقة العميقة التي تجعل السم في النهاية يطال من ظنوا أنهم في مأمن. فما من أحد يمكنه النجاة من عواقب الظلم، وما من شعب يستطيع أن يعيش في ظل الحق إلا إذا كانت العدالة هي المبدأ الذي يسري في كل شريان من شرايين الحياة.
إن الفلسفة السياسية التي نعيش في إطارها اليوم تتطلب منا أن نعي أن مصير كل شعب مترابط ببعضه البعض. فلا حرية لشعب دون حرية الآخرين، ولا سلام لشعب دون سلام الآخرين. إن مبدأ العدالة الإنسانية لا يحتمل التهاون، ولا يقبل الاستثناءات. فمن لا يعترف بحق الشعوب في تقرير مصيرها، في عيش حياة كريمة، في بناء هوية ثقافية ووجود سياسي، فإنه يشق طريقه نحو تدمير نفسه، بل وتدمير العالم بأسره.
علينا أن نتساءل: هل سنظل في دائرة اللاعدالة؟ هل سيستمر الظلم على مر العصور؟ أم أن الأمل سيظل متجذراً في قلوبنا، يُنير لنا الطريق نحو عالم أكثر إنصافاً؟ إن الذاكرة الجماعية يجب أن تظل حية فينا، لا لنظل نعيش في الماضي، بل لنفهم الحاضر، ولنعرف كيف نبني مستقبلاً لا يُنسى فيه الكورد، ولا يُنسى فيه أي شعب يعاني من الظلم.
الله حق، ولا شيء آخر. والعدل لا يسقط أبداً، مهما كانت الظروف.