بقلم: د. عدنان بوزان
لم يكن الفقد يوماً سوى ناقوس يقرع في الأعماق، يذكّرنا كم كنّا عُراة أمام سطوة الغياب، وكم نحن عاجزون عن الاحتفاظ بالذين كانوا لنا عمراً ثم مضوا، دون أن يلتفتوا خلفهم. في آخر العزاء، حين ينفضّ الجمع، وتتوارى الأقدام المتعبة عن عتبات البيت، يبقى الصمت وحده سيّداً للمكان، جالساً في الزاوية التي كان الفقيد يشغلها، يحدّق إليك بعينين خفيتين، كأنه يسألك: كيف ستكمل الطريق بعد أن صرت وحدك؟
آهٍ، لو أن الفقد يُفهم!
لكنه لا يُشرح، لا يُصاغ في كلمات. إنه وجع ينمو مثل شجرة جرداء في القلب، جذورها ممتدة في أعماقه، وأغصانها تلوّح في وجه كل يوم جديد، كأنها تذكّرك بأن الحياة لم تعد كما كانت، وأن كل شيء، منذ الآن، سيحمل ظلّ الغائب.
في آخر العزاء، حين يُطوى السجاد، وتُرفع الكراسي، تبقى رائحة القهوة عالقة في الهواء، كشاهد صامت على الذين جاؤوا، وتحدّثوا، وبكوا، ثم غادروا ليكملوا حياتهم، وكأن شيئاً لم يكن. وحدك من سيبقى هناك، بين الجدران التي تعرف أنينك، أمام المقعد الفارغ، والمائدة التي لم تعد تكتمل، والباب الذي لن يُفتح بعد اليوم على وجه مألوف.
كيف للذاكرة أن تصبح لعنة؟
إنها لا ترحم. تنبش في كل شيء، تعيد إليك ضحكته التي كانت تملأ البيت، نبرات صوته حين يناديك، حتى الخطوات التي كنت تحفظ وقعها فوق الأرض. تعود إليك في منتصف الليل، توقظك من نومك، لتدرك أن اليقظة أكثر إيلاماً من الحلم.
في آخر العزاء، ينطفئ صوت المواساة، يذبل التعاطف كما تذبل الأزهار المصفوفة فوق القبر، ويبقى الحزن في داخلك وحدك، لا أحد يراه، لا أحد يشعر بتموّجاته في صدرك، لا أحد يفهم أن فقد الأحبة ليس لحظة تنتهي، بل عمرٌ يُختصر في ذكرى موجعة، تأخذ منك شيئاً فشيئاً، حتى لا يتبقى منك سوى شبح يمشي في طرقات كانت يوماً تعجّ بالحياة.
أهذا هو العمر بعد العزاء؟
أن نمضي حاملين وجوه الراحلين على وجوهنا، نخفي وجعنا في زحام الأيام، ونبتسم بينما تنحني أرواحنا في الداخل، أن نصبح نحن العزاء الممتد لعمر بأكمله؟
ما أصعب أن يكون آخر العزاء هو بداية النهاية، حين ينفضّ الجميع ويبقى الموت حاضراً، لا في القبور فحسب، بل في الأحاديث التي لم تكتمل، في الأماكن التي كانت تنبض بوجودهم، في أعياد بلا فرح، وفي ليالٍ طويلة لا تنام.
ربما لن نعتاد الغياب، لكنه سيعتادنا، سيجالسنا كل مساء، سيصير جزءاً منا، حتى نغدو نحن الغائبين يوماً ما، فنترك آخر عزاء جديداً في حياة من أحبونا، ونصبح ذكرى في مقعد فارغ آخر، في قلبٍ مثقل آخر، في حياةٍ أخرى... تظل تسير رغم كل الفقد.