حياةٌ مخفيّة خلف ستائر الصمت: حيث تنبض الحكايا التي لا تُقال
- Super User
- النصوص الأدبية
- الزيارات: 1345
بقلم: د. عدنان بوزان
هناك حياةٌ خفيّة تنبض في أعماقنا، لا يراها أحدٌ سوانا، حياةٌ موازية لتلك التي يظن الآخرون أننا نعيشها، لكنها مختلفة تماماً، أكثر عمقاً، وأكثر صخباً رغم سكونها الظاهر. خلف كل صمتٍ حكايةٌ مكتومة، وخلف كل نظرةٍ سرٌّ لا يرغب صاحبه في كشفه، فالصمت ليس مجرد غياب للكلام، بل هو قبضةٌ مشدودةٌ على القلب قبل اللسان، واحتباسٌ لمشاعر لا يُرجى لها الإفلات.
نحن لسنا ما نظهره، بل ما نُخفيه، ولسنا ما نقوله، بل ما نسكته ونكتمه. ففي أعماق كلٍّ منا مدنٌ من الذكريات، وجزرٌ من الحنين، وسراديبُ طويلةٌ تمتد في دواخلنا، لا يصل إليها أحد. نحن نتحدث بأصواتٍ هادئة، لكن في داخلنا ضجيجٌ من الأمنيات المؤجلة، والخيبات المتراكمة، والمشاعر التي لم تجد طريقها للنور.
الصمتُ عالمٌ قائم بذاته، لا يعني الفراغ ولا العدم، بل هو أبلغ اللغات حين تعجز الحروف عن التعبير. هو قصةٌ لم تجد من يصغي إليها، وحزنٌ أيقن صاحبه أن البوح به لن يخفف وطأته، بل ربما يزيده ألماً. فكم من أوجاعٍ لو خرجت من أفواهنا لتضخّمت، وكم من كلماتٍ لو قيلت لفقدت معناها، لذلك نؤثر الصمت، لا ضعفاً، بل حكمةً واحتفاظاً بكرامة مشاعرنا.
نحن كالجزر المنعزلة، نبدو متشابهين فوق سطح الحياة، نضحك، نتحدث، نؤدي أدوارنا كما يجب، لكن في العمق، لكلٍّ منا عالمه الذي لا يراه أحد. هناك أمواجٌ تضطربُ في الداخل، هناك أسرارٌ معلّقة بين القلب والذاكرة، هناك لحظاتٌ سابقةٌ لا تزال تعيش فينا، وحنينٌ لأيامٍ لم نعد نملكها. نكتم كل ذلك لأننا ندرك أن العالم لن يحتمل كل هذا الصخب الذي نحمله في صدورنا، فنرتدي أقنعة الصمت، لا خوفاً، بل لأننا نعلم أن هناك مشاعر لا تُقال، وأن بعض الأحزان حين تُقال تصبح أكثر وجعاً.
ليس كل صامتٍ راضياً، وليس كل متحدثٍ صادقاً. فثمة من يثرثر كثيراً ليخفي خواءه، وثمة من يلوذ بالصمت لأنه يدرك أن الكلمات لن تغير شيئاً. أحياناً، نختار الصمت لأنه أكثر أماناً، وأكثر حفظاً لما تبقى فينا من شجاعةٍ واعتزاز. فالصمتُ ليس ضعفاً، بل هو درعٌ يحفظ أرواحنا من الانكسار، وهو اللغة التي لا تخوننا حين تخذلنا الكلمات.
نصمت، لكننا في أعماقنا نتحدث، نحاور أنفسنا، نعيد ترتيب ذكرياتنا، نواسي أرواحنا، ونكتب في صمتنا قصصاً لا تُقرأ، لكنها تُحسّ. نمضي في الحياة وكأننا لا نحمل شيئاً، لكننا في الواقع نحمل في قلوبنا عالماً كاملاً، مليئاً بما لم يُقل، وبما لا يُقال.