بقلم: د. عدنان بوزان
ثمة لحظةٌ لا يُولَد فيها الكلام، بل يُدفَن. لحظةٌ يصير فيها الصمتُ أكثر امتلاءً من كل لغات الأرض، ويغدو فيها البياضُ أكثر فصاحةً من القصائد. في تلك اللحظة، جلستُ أنا والقلم، وبيننا ورقةٌ تُنصت للغيم، تنتظر أن تنهمر العاصفة لا من السماء، بل من قلبي.
لم أكن أبحث عن كتابةٍ تُقال، بل عن صمتٍ يُفهم... صمتٍ يكتبني كما لم يكتبني أحد، ويُعيد ترتيب شروخي كما تُرتّب الأرملةُ بقايا الصور على طاولة الذكريات. كل حرفٍ في هذه اللحظة ليس نتاج عقلٍ منظّم، بل نزيفُ وجدانٍ لم يَعُد يثق بأحد، حتى بنفسه.
الصمتُ يكتب... نعم، يكتب، لكنه لا يستخدم الكلمات، بل الرجفةَ التي تسبق البكاء، والارتعاشةَ التي تعقب الذكرى، والخوفَ الذي يتسلّل في آخر الليل، حين تنطفئ الهواتف، وتُقفَل الأبواب، وتبقى الروح عاريةً أمام نفسها.
الصمتُ يكتب، لا لأنّ الكلام عاجز، بل لأنّ الألم أعمق من أن يُروى. يكتب حين تُخذَل من أقرب الناس، ولا تجد مفرّاً سوى أن تختبئ في قصيدةٍ لا يعرفها أحد. يكتب حين تتذكّر من رحلوا بلا وداع، أولئك الذين غادروا ولم ينسَوا أن يتركوا أرواحهم معلَّقةً في تفاصيلك الصغيرة.
وأما الحبر... فالحبر لا يكتب، بل يبكي. يبكي بصوتٍ لا يُسمَع، لكنه يُرى، ويُحسّ، ويُفهَم. كلّ قطرةِ حبرٍ على الورق كانت دمعةً لم يُتح لها أن تسقط من العين، فهربت من القلب إلى القلم، ومن القلم إلى الصفحة، ومن الصفحة إلى قارئٍ لا يعرف شيئاً، لكنه يشعر بكلّ شيء.
الحبرُ يبكي لأنّ الصمتَ يثق به. لأنّ القلم وحده لا يسأل: "لماذا؟"، ولا يُطالبك بتفسير خيباتك، ولا يطلب منك أن تكون قويّاً حين تنهار، أو سعيداً حين تتكسّر. الحبرُ يبكي لأنّك لم تَعُد تبكي، فقرّر أن يبكي عنك.
هناك، على حافة الورقة، تتكوم تنهيداتي كنثار رماد، تتسلل بصمتٍ كأنها أرملةٌ تنظر إلى البحر وتنتظر عودة غائبٍ تعرف أنه لن يعود. الكلمات لا تترتّب، بل تتساقط كما تتساقط الثلوج على قبرٍ مفتوح، تحاول أن تغطّي وجعًا لا يُدفَن.
أكتب... لا لأنّ لديّ شيئاً أقوله، بل لأنّ صمتي يضجّ، ويتمدد، ويغدو أكبر من صدري. أكتب لأنّ داخلي مدينةٌ مدمَّرة، وأحتاج أن أرسمها على الورق، لا لأعيد بناءها، بل لأبكيها كما تُبكى الأطلال.
ما معنى أن يعيش المرء بين السطور؟ أن يُحبّ دون أن يُرى؟ أن يُعانق في خياله مَن لم يجرؤ على لمس يديه؟ أن يقول "أشتاق" كلّ ليلةٍ لاسمٍ لا يملك الحقّ في مناداته؟ الحبر وحده يعرف، وحده يحتمل، وحده يسجّل هذا الجنون الهادئ الذي لا يُعرَض على أحد.
الصمتُ يكتب لأنّ العالم لا يسمع. والحبرُ يبكي لأنّ القلب تَعب من الكلام. وبين الاثنين، أنا... عابرٌ في سطرٍ طويل، لا يعرف نهايته، لكنه يعلم أن كل بدايةٍ جديدة تبدأ بدمعة، وكل نهايةٍ حقيقية تُكتَب بالصمت.
هكذا صِرتُ: صمتٌ يكتب، وحبرٌ يبكي.
وصار الورق هو النديم، والظلّ، والملجأ.
وصارت الكتابة طقسي الوحيد، حين لا مفرّ من الوحدة، ولا مهرب من الحنين.
وصار كلّ نصٍّ أكتبه، مرآةً أُحدّق فيها طويلاً، لا لأتجمّل، بل لأتذكّر أنني كنت هناك ذات وجع،
وأنني ما زلت هنا... أكتب، بصمتٍ ينزف، وبحبرٍ يبكي.