بقلم: د. عدنان بوزان
ليست المسألة متعلقة بكرسيٍّ لم يُحجز لي، ولا بدعوةٍ لم تُرسل، ولا حتى بخطابٍ لم يُتْلَ باسمي. المسألة أعمق من كل تلك الاعتبارات الشكلية التي يتوه فيها كثيرون وهم يتابعون المشهد السياسي الكوردي في روج آفا، إما بعين الحياد البارد، أو من خلف ستار التصفيق الأجوف. أما أنا، فلا أدافع عن "المؤتمر الكوردي الأخير" الذي عُقد في قامشلو بتاريخ السادس والعشرين من نيسان، بل أدافع عن شيءٍ أبعد، أقدس، وأخطر: أدافع عن وجودي الكوردي في فضاء سياسي يُعاد تشكيله دون أن أُستشار، دون أن أُحتَرَم، ودون أن يُؤخذ عقلي، وموقفي، ورؤيتي بعين الاعتبار.
تساؤلات بعض الأصدقاء حول غيابي عن المؤتمر مشروعة، لكنها تكشف حجم الخلل: حين يُفترض أن يكون الحضور بحد ذاته إثباتَ ولاء، أو إشارةَ انتماء، وحين يتحوّل المثقف إلى "متهم" لمجرد رفضه الجلوس إلى وليمة لم يُدعَ إليها، ولم يُؤمَّن له فيها مقعد يليق بمقامه ودوره.
دعونا نواجه الحقيقة دون رتوش: هذا المؤتمر، رغم كل ما قيل عنه، ليس المؤتمر الكوردي الجامع الذي حلمنا به طويلاً. لا من حيث التمثيل، ولا من حيث الهدف، ولا من حيث الرؤية السياسية، ولا من حيث الهيكل التنظيمي. إنه، بكل وضوح، اتفاق مصالح بين جهات حزبية مركز ولائها خارج حدود روج آفا وسوريا. فحين يتحوّل القرار الكوردي السوري إلى ملحق تفاوضي بين قنديل وأربيل، فإننا لا نكون أمام مشروع قومي، بل أمام صفقة سياسية تُعقد على أنقاض حلم شعبي جارف لطالما تمنّى قيادة تُمثّله، لا تُصادره.
ما يثير الألم أكثر من الخلافات الأيديولوجية، هو استبعاد العقل لصالح الولاء الأعمى، وتهميش المفكرين لصالح المصفقين، وكأنّ المطلوب منّا أن نكون عبيداً في مسرح سياسي لا يعترف إلا بالتصفيق ورفع الأيدي. هل يُعقل أن يُستبعد الأكاديميون، والحقوقيون، والمثقفون من الصف الأول؟ أليست هذه المناسبة – إن كانت صادقة النية – فرصةً للبحث عن نخبة مستقلة تحمل المشروع الكوردي إلى ضفة السيادة والتفكير الحر؟ أم أن ذلك يُعدّ خطراً على معادلات الهيمنة والاصطفاف؟
لا أرى في هذا المؤتمر تمثيلاً حقيقياً للكورد السوريين، بل أراه – من وجهة نظري – امتداداً لتقاطع المصالح بين حزب العمال الكردستاني - التركي والحزب الديمقراطي الكوردستاني – العراق والاتحاد الوطني الكوردستاني - العراق، وواجهة لتفاهمات إقليمية لا تُبقي للكورد السوريين إلا هامش الدور، لا مركز القرار.
ومع ذلك، لا أرفض مخرجاته بالمطلق. بل أؤيدها من منطلق الضرورة السياسية، لا القناعة الأيديولوجية. لأن ما يُنتَج عنهم – إن خدم مصالح الكورد السوريين – فهو الرهان الوحيد المتاح في عالم معقّد لا يرحم الضعفاء. لكن، بين الرغبة في دعم المخرجات، والتحذير من طبيعة التحالف نفسه، مسافة من القلق يجب أن تُقال: أخشى أن يكون هذا الاتفاق مجرد زواج متعة سياسي؛ زواجاً مؤقتاً تُفكَّك أوصاله حين تنقضي الحاجة، وتعود السيوف إلى أغمدتها الموجهة إلى صدورنا نحن، أبناء الداخل، أبناء الهوية المزدوجة: لا حزب لنا، لكن لنا قضية.
غيابي عن المؤتمر ليس رفضاً للكورد، بل رفضٌ للعبودية باسم الكوردايتي. ولست الوحيد الذي غاب، بل غابت رؤية حقيقية تمثلنا؛ نحن الذين لا ننتمي إلا إلى هذا الشعب، ولا نرتبط إلا بمصيره، لا بأجهزة مخابراتٍ عابرةٍ للحدود.
في النهاية، أقولها بوضوح: أنا لا أدافع عن المؤتمر، بل أدافع عن حقي في أن أكون كوردياً خارج الاصطفاف، داخل النضال، شريكاً في الحلم، لا تابعاً في الطابور.