بقلم: د. عدنان بوزان
لم أكن أحداً... كنتُ ظلًّا يتسكّع على أرصفة الأيّام، يبحث عن جسدٍ نسي ملامحه عند أول انكسارٍ للضوء. لا أمتلك اسماً، ولا أطالب به. فالاسم ثقيلٌ على الذين انسلّوا من قواميس الحضور، وصاروا سطوراً شاحبةً في هوامش الوجود.
في تلك اللحظة التي جرّت فيها الشمسُ الخريفيّة عباءتها القرمزية على خيبةِ الأرض، كنتُ أقف عند حافّة الضوء، ألوّح لظلّي الذي لم يأتِ. عبرتني الشمسُ كما يعبر السهمُ الغيمَ، لا تترك فيّ إلا ندبةً دافئةً تشبه غروباً خجل من البكاء.
أنا ذاكرةُ لا أحد... صوتٌ مُبلّلٌ بندى الكلمات التي لم تُقل، وصدىً هاربٌ من فمٍ لم يتقن الاعتراف. كلّ ما بي: رعشةُ قصيدةٍ تبحث عن بيتٍ تسكنه، ورغبةٌ غامضةٌ في الذوبان؛ لا في البحر، بل في عينِ النسيان.
كان لي اسمٌ قديم، ووجهٌ يشبه المطر حين يهمس على زجاج النافذة، ولسانٌ يكتب القصائد كما لو كان يشهق. لكنّ اللغة خانتني، لم أعد أجدها في فمي، وكأنّ العدم مسحني بلطفٍ عن وجه الحكاية.
صرتُ حجراً أزرق، لا يسأل أحدٌ النوارس عن اسمه حين تمرّ عليه كلّ مساء، تغسل صمته بأجنحتها وتعود. من أجلها، تمنّيتُ أمواجاً مكسورة، وسماءً رماديّةً لا تحتمل وزن الزرقة، كي لا يوقظني الأمل من غفوتي القديمة.
أنا سطرٌ سقط من كتابٍ لم يُكتب، اسمٌ تمّ عزله عن القصص، لا يصلح للبطولات، ولا حتى للفصول؛ فقط للهوامش التي لا يلتفت إليها أحد، حيث تنهار الأحلام بهدوءٍ في منتصف صفحةٍ لا قارئ لها.
أحياناً... أشعر أنني ومضةٌ عابرةٌ في حلمٍ لشخصٍ لم يعرفني، رأى وجهي الشاحب وقال: هذا ليس أنا. ولم يكن هو أحداً أيضاً. كأنّنا التقينا في الفقد، وتصافحنا بلا أسماء.
كلّ الذين أحببتهم... علّقوا أسماءهم على أبوابي ورحلوا. وبقيتُ بلا باب، بلا جدار، بلا ظلّ. لم أعد أبحث عنهم. كنتُ صمتاً نقيّاً، يتمنّى أن يسكن عينَ عاشقٍ أتعبه الحنين، أو رائحةً باقيةً على قميصِ أمٍّ نسيت كيف تنتظر.
أكتبني كغيمةٍ عابرة... مرّت على الورق دون أن توقظ فيه سيرةً، أو تترك للريح نداءً.
أيتها الشمسُ الخريفيّة... لا تعتذري، لم أعد بحاجةٍ إلى دفئكِ، فقد صرتُ جميلاً في نسياني. حين لم يعرفني أحد... عرفتني أنا.
أنا لا أحد...
لكنني كنتُ شيئاً جميلاً مرّ خفيفاً... كأنّه لم يكن، وكأنّه كلّ شيء.