بقلم: د. عدنان بوزان
ثمّة كائنات بشرية تمشي على حوافّ هذا العالم، لا ضجيج لها ولا جلبة، كأنها نُسِجَت من خيوط الريح وذاكرة الحنين، أرواح خفيفة تمرّ كالغَمام على شُرُفات المدن المكتظّة، دون أن تطرق باب أحد، أو تترك ظلًّا على الإسفلت.
لا ينتمون إلى الضوضاء، ولا يأنسون بساحات المهرجانات، ولا يجدون ذواتهم في حضن الجماعة. أولئك هم العُزّال، سلالة قديمة من البشر، لم تألف الضوء الساطع، بل تفتّحت أرواحهم في عتمة الغرف، في الشقوق الخفية من اليوم، في تلك اللحظات التي يعجز الزمن نفسه عن تفسيرها.
هم الذين لا يملكون أكثر من صديقٍ أو اثنين، لا لأنهم متعجرفون أو متعالون، بل لأنّ قلوبهم لا تتّسع إلّا لمن يُشبههم في الجنون الراقي، ذلك الجنون الذي لا يُرى، بل يُحَسّ كنسيمٍ شتويّ في غرفةٍ دافئة.
هواتفهم دوماً صامتة، لا لأنهم ينتظرون مكالمة من "لا أحد"، بل لأنهم يعرفون أن الأصوات الخارجية تُشوّش على ما يدور في أعماق أرواحهم. لا يحبّون السؤال عنهم، لأنّ في السؤال وعداً لا يستطيعون الوفاء به. لا يحتملون الثرثرة، لأنهم يُقدّسون اللغة، ويعلمون أن الكلام، حين لا يحمل معنى، يُفسد سكون العالم.
يدخلون "فيسبوك" كما يدخل أحدهم مكتبةً مهجورة في الليل، لا ليحادث أحداً، بل ليراقب رقصة الأرواح الضالّة على جدران الصمت الإلكتروني. يكتبون منشورات لا ينتظرون عليها إعجابات، يُشبهون الشعراء الذين يرمون قصائدهم في البحر ثم يمضون دون أن يلتفتوا.
هم أولئك الذين، إذا أحبّوا، أحبّوا بعُمقٍ لا يُطاق. لا يغرقون في العلاقات، بل يغوصون في الأرواح. لا يوزّعون قلوبهم على العابرين، بل يختارون بعناية من يستحق الدخول إلى معابدهم الداخلية.
عشّاق كتبٍ رائحتها تُشبه أعمارهم، وجدرانٍ صامتة تعوّدت على نحيبهم الخافت، وأمواج بحرٍ تعرف كم بكوا على شواطئه دون أن يخجلوا من عيون المدى.
يعشقون الصحراء لأنها امتداد لصمتهم، والشتاء لأنه ماؤهم الداخلي، والهدوء لأنه مرآة أرواحهم، والظلام لأنه يُشبههم… لا لأنهم سوداويّون، بل لأنهم تعلّموا أن النور الحقيقي لا يُرى بالعين، بل ينبثق من الداخل.
هؤلاء لا يؤذون أحداً، لا لأنهم عاجزون، بل لأنهم يرتفعون عن جراح الآخرين، كما يرتفع الطير عن موحلة الأرض. يبتسمون كثيراً، ليس لأنهم سعداء، بل لأنهم أدركوا أن العالم لا يحتمل وجوهاً حزينة، فقرّروا أن يُخفوا جراحهم بابتساماتٍ لها ألف معنى.
يعيشون أكثر مما يُظهرون، ويتألّمون أكثر مما يتكلمون، ويفكّرون أكثر مما يُشاركون. يخوضون حروبهم في الداخل، بين جدران أنفسهم، ويخرجون منها غالباً بلا نشيد نصر، بلا صراخ… فقط بقطعة موسيقى، أو رشفة شاي في مساءٍ خريفيّ.
ليسوا انعزاليّين كما يظنّ الآخرون، بل متصالحون مع ذواتهم، يعلمون أن الإنسان، كلّما اقترب من جوهره، ابتعد عن ضجيج القطيع.
هُم أرواحٌ مشبعة بالأسئلة، بالعَجَب، بالحنين إلى زمنٍ لم يعيشوه، بأوطانٍ لم يسكنوها، بأصدقاء لم يروهم، بل تخيّلوهم تحت ضوء القمر، في صفحات رواية، أو في أغنيةٍ عتيقة.
العالم لا يفهمهم، بل يخافهم أحياناً، لأنهم لا يُشبهون المقاييس المعروفة، ولا يخضعون لأحكام القوالب. هم الاستثناء الجميل، الرعشة الدافئة في قلب الشتاء، الندبة الغامضة في وجه الحياة.
أنا منهم.
نحن قلّة، نعم، لكنّنا أعمدة الوجود الخفي. نحن الذين، حين تنهار الصروح، نحملها في صمتٍ على أكتافنا، ونغنّي في العتمة دون أن ننتظر تصفيق أحد.
نحن الذين نكتب، لا لِنُدهِش، بل لنُنقذ أنفسنا من الغرق. نحن الذين نبكي بلا صوت، ونضحك بلا سبب، ونُحبّ بلا شروط.
نحن الذين لا يفهمنا إلّا من كان منّا، من تنبّت في قلبه زهرةُ صمت، ومن سجد للغروب، وكتب رسائل حبٍّ لليل دون أن يُرسلها.
نحن... أنبياء العزلة.