بقلم: د. عدنان بوزان
جلستُ هناك، على المقعد الخشبي العتيق الذي أكلته مواسم الغياب، أراقب البواخر تتهادى على سطح الماء مثل أمنياتٍ تائهةٍ لم تجد لها ميناء. كانت الأشرعة تميل بخجل نحو الغروب، وكأنها تعتذر عن تأخّرٍ لم يكن ذنبها.
أحدّق في الأفق الذي تلاشى فيه صوتكِ، علّكِ تظهرين بين الموج، بين وجوه المسافرين التي لا تلتفت، في يدٍ ملوِّحة، في شالٍ تحمله الريح، أو حتى في صدفةٍ مرميةٍ على الرمل، تهمس باسمكِ دون صوت.
أجلسُ والكون يضيق حولي. أضع رأسي بين كفّيَّ، كأنما أُسنده من الانهيار. كلّ شيء من حولي يشي بكِ، حتى البحر ينهج من البكاء، وكلّ موجةٍ ترتطم بالسفينة كأنها تصفعني وتقول: "تأخّرتَ كثيراً."
كنتُ أراكِ دوماً في أحلامي، واقفةً هناك، على حافة السفينة، تحملين في عينيكِ كلّ أسئلتي المؤجّلة، وفي يدكِ وردة زيزفون ذبلت من الانتظار. صوتكِ – حين كنتِ تهمسين لي في الحلم – كان أخفَّ من نسمة، وأقوى من عاصفة.
أقول لكِ:
"تعالي... فالعالم من دونكِ مجرّد فصلٍ ناقصٍ في روايةٍ لا تُقرأ."
فتبتسمين... وتذوبين في الضباب، تاركةً لي عطركِ... ووجعي.
لقد مرّت سنواتٌ، وأنا أجيء إلى هذا الرصيف، لا لأراكِ فقط، بل لأحفظ لكِ الوعد، وأذكّر نفسي أن هناك امرأةً ذات يومٍ قالت:
"لا تنسَ مواثيق الحب بيننا."
ولم أنسَ.
لم أنسَ ضحكتكِ ونحن نركض خلف أسراب السنونو في صيفٍ لا يُشبه سواه، لم أنسَ كيف كنتِ تكتبين اسمي على زجاج النوافذ الممطرة كأنكِ تنقشين نذراً للعاشقين. ولم أنسَ... أنّ آخر ما قلتهِ لي، أن الفرات يختنق.
كنتِ ذابلة...
لا، بل كنتِ نُدبةً في وجه الربيع.
وجهكِ الذي كان يُشبه صباحاً كورديّاً في نيسان، صار مثل صفحةٍ قديمةٍ في كتابٍ مبلّل، مشوّهةٍ بالحزن.
قلتُ لكِ:
"ما الذي أصابكِ، يا وردتي؟"
فهمستِ كمن تشهق للمرة الأخيرة:
"خنقوا الفرات يا حبيبي...
سرقت السدود أغنياته،
وأنا كنتُ واحدةً من أزهاره."
في تلك اللحظة، انكمش العالمُ كلّه في عينيّ.
لم أعد أسمع شيئاً سوى بكاء الماء.
حتى دمعتي – تلك التي طالما خجلت من النزول – انزلقت على وجنتي، كما تنزلق ورقة خريفٍ من شجرةٍ أنهكها الحنين.
ثم افترقنا...
افترقنا كما تفترق الشطآن عن الطيور المهاجرة. وبقيتُ أنا، وحيداً، أُحصي الخطوات التي لا تعود، أكتبكِ على وجه الموج، وأرسم ابتسامتكِ على رغوة البحر،
وأنتِ هناك...
في مكانٍ لا أعرفه، لكنّي أؤمن أنّكِ تنظرين إليّ.
وكلّما جاء الغروب، أسرح بخيالي نحو الضفّة التي غادرتها، حيث كنّا نعدّ الأمنيات ونوزّعها على الغيم. أراكِ دائماً واقفةً هناك، بجسدٍ من وهم، وعينين من وجع، تقولين ما لم تُكمليه:
"لا تنسَ..."
وأنا لم أنسَ.
ما زلتُ أحبكِ...
وسأظلّ أكتبكِ على صفحات الريح،
وأرسمكِ على ظلّ المراكب،
وأهمس باسمكِ لكلّ زهرة زيزفونٍ تُولد قرب النهر،
لعلّها تحمل عطركِ في لحظةٍ من مجاز.
لأنكِ لستِ امرأةً فقط...
أنتِ القصيدة التي نزفتُها،
والوطن الذي نُفيتُ عنه،
والنهر الذي ذبل،
والحبُّ الذي لا يموت.