بقلم: د. عدنان بوزان
في حضرة الزمن المتجمد على قمم الجبال، حيث لا ينمو سوى الصمت، ولا يسمع إلا همس الريح على وجوهٍ نقشت عليها خرائط التعب، اصطفوا كأنهم صلاةٌ معلقة بين الأرض والسماء. لم يكونوا رجالاً ونساءً فحسب، بل كأنهم أرواحٌ أقدم من الصخر، مكللة بالوجع، مشحوذة بالحلم، مأخوذة بدهشة الحياة والموت في آنٍ واحد.
كانوا ثلاثين. نصفهم نساءٌ عرفن كيف يذبح الحنين دون أن تغمض العين رمشها. عيونهن لا تبكي، لكنها تفيض بشيء أعمق من الدمع… كأن التاريخ بأسره يسكن نظراتهن، وكأن كل زهرة برية نبتت على رصيف النسيان، تنحني لهن احتراماً. أماً الرجال، فقد تكللت وجوههم بلحى لم يربِّها الزمن، بل أنضجها المنفى، وصقلها البرد، ووقرها الوعد الذي لا يموت: كوردستان.
لم يأتوا ليحتفلوا، ولا ليرفعوا شعارات، بل جاؤوا ليودِّعوا بنادقهم كما يودِّع العاشق امرأةً أحبها حدّ الاحتراق. في وسط الساحة، وِعاءٌ معدني، أسود كأنه قطعةٌ من جحيمٍ استعير من الذاكرة، ينتظر احتضان الحديد البارد الذي دفأ صدورهم لسنوات، وقاتل عنهم، ونام بقربهم في الليالي التي لم يكن فيها غير النجوم حارساً للأمل.
تقدم أولهم، وكان شيخاً في روحه رغم أن وجهه لم يجاوز الأربعين. يده ترتجف قليلاً، لا من الخوف، بل من رهبة القداسة. وضع بندقيته كما لو أنه يضع قلبه بين يدي الله، ثم تراجع بخطوةٍ تسبقها ألف ذكرى. تبعته امرأة، لها عينان من لهبٍ ونخيل، وكتفٌ واحدٌ ما زال يحمل ظل رفيقتها التي سقطت عند حدود الغيمة. وضعت سلاحها، ومسحت على فوهته كما تمسح الأم على جبين رضيعٍ نام للتو. لم تتكلم، لكن الأرض فهمت ما قالت.
واحداً تلو الآخر، تكرّر الطقس… سلاحٌ يسلم للنار، ونظرةٌ ترمى إلى السماء، وخطوةٌ ترجع الجسد إلى صفّ الصمت.
ثم اشتعلت النار، كما لو أن الذاكرة قررت أن تنفجر. صعد الدخان، ولم يكن دخاناً فحسب، بل أرواحاً تتصاعد كالحكايات التي لا تموت. راحت النار تأكل الحديد، لكننا كنّا نراها تأكل سنواتٍ من الجوع، ودفاترَ فيها قصائد نظمت على قمم التلال، ودماءً سالت في صمتٍ لا يشبه الموت، بل يشبه الولادة.
لم يقل أحد شيئاً. لم ينشد أحد. حتى الهواء توقف عن التنفس لحظةً، إجلالاً لطقسٍ لم تشهده الجبال من قبل. وحده الصمت تحدث، وكان صوته عميقاً كالهاوية، يسأل:
"هل كبرنا على الحلم؟ أم كَبر الحلم علينا؟"
في قلوبهم، لم تكن تلك نهاية. كانوا يعرفون، كما تعرف الأشجار أنّ الربيع سيعود، وأنّ الحرب تغيّر شكلها كما يتغيّر المطر. البنادق رحلت، لكن الحلم بقي، وانتقل من كتفٍ إلى كتف، ومن جبهةٍ إلى كتاب، ومن طلقات الرصاص إلى حناجر الأطفال التي تتهجى كلمة "حرية" لأول مرة.
غادروا الساحة ببطء… لا لأن أرجلهم تعبت، بل لأن الذاكرة ثقيلة، ولا تحمل دفعةً واحدة. خلفوا وراءهم رماداً يشبه الطّهر، ودخاناً يصعد ليخبر السماء أنّ الأرض ما زالت تنجب أبطالاً لا يموتون، بل يتحولون إلى رموزٍ تمشي بيننا، تصلي في كل بيت، وتنام تحت كل علم.
غادروا، والجبال تراقبهم بصمتٍ أمومي، كما لو كانت تخبئهم في صدرها إلى حين. غادروا، لكن الوطن مشى معهم، في أنفاسهم، في نظراتهم، في صمتهم الذي صار لغةً جديدة، لا تكتب بالحروف، بل تقرأ بالقلوب.
هكذا انتهى الطقس، لا نهاية، بل بدايةً أخرى…
بدايةٌ لوطنٍ لا يحرس بالبندقية، بل بالحلم.
وحدهم العشاق يعرفون:
أنّ الأرض التي يزرع فيها الحب… تزهِر وطناً.