بقلم: د. عدنان بوزان
تتهاوى الأحلامُ أحياناً، لا بصوتٍ مدوٍّ كالسقوط من السماء، بل بهدوءٍ موجع، كدمعةٍ ترفّ في طرف العين قبل أن تفرّ إلى خدٍّ مُتعَب.
في زاويةٍ من ذاكرةِ المساء، حيثُ تتدلّى خيوطُ الغروب كأعصابٍ عاريةٍ من جلدها، جلستُ أتأمّل رُكام الأحلام التي انكسرت على رصيفِ العمر. لا شيءَ أكثرَ وجعاً من حلمٍ مات واقفاً، يشبه شجرةً قطعتها الفصولُ قبل أن يُزهِرَها الربيع.
كنتُ، ذات ليلٍ، أحملُ في قلبي مدينةً من الأماني، لكل شارعٍ فيها اسم، ولكل نافذةٍ ضوء، ولكل زاويةٍ قصيدةٌ لم تُكتَب بعد. كنتُ أؤمن أنّ الطريقَ إلى الغد مرصوفٌ بنداءاتنا، وأنّ العالم سينصتُ ذاتَ يوم. لكن الريح لا تنتظر، والريحُ حين تهبّ على نايِ الروح، تُفرغُ منه أنغاماً كانت ستصبحُ أغنيةَ الخلاص.
تكسّرت أحلامي...
لا لأنّها واهية، بل لأنّ الواقع كان حجراً ثقيلاً، يسقط على زجاجِ الروح بلا رحمة.
كلُّ حلمٍ كُسِر، كان صدىً لضحكةٍ مؤجَّلة، لفرحٍ لم يكتمل، لوجهٍ كنتُ سأعانقه في ما بعد، ثم اختطفه الغيابُ بلا وداع.
هل تعلمُ كيفَ ينكسرُ الحُلم؟
ليس كما تنكسرُ الأشياء... بل كما ينهارُ المعبدُ في قلبِ من صلّى فيه طيلةَ العمر، ثم وجده خالياً من الإله.
الحُلم لا يموت فجأة... بل يتآكل بهدوء، كما تتآكل الكتاباتُ المنقوشة على جدرانِ المعابد حين تُهملها القلوب.
وفي زوايا الليل، حيث لا يسمع أحدٌ صوتَ بكائك الداخلي، تمدّ يدك إلى حلمٍ قديم، تُحاول أن تُرمّمه بلعابِ الذكريات، بخيوطِ الانتظار، بأنفاسِ ما تبقّى من رجاء... لكنه لا ينهض.
صار جثةً على سريرِ الماضي، تنظر إليك بعينين مفتوحتين لا تبكيان، لأنّ الأحلام لا تملك دمعاً... بل رماداً.
وأنا؟
صرتُ أمشي على شظايا أحلامي، كما تمشي العاشقةُ الحافيةُ في جنازتها؛ لا تشتكي، لا تصرخ، بل تبتسمُ للأسى، كأنّها تُباركه.
لكن، هل مات كلّ شيء؟
كلا.
ثمّة حُلمٌ صغير، يتخبّط كجنينٍ تحت أنقاضِ الضلوع؛ لا يزال يتنفّس، لا يزال يرفض أن يُولَد في العتمة.
إنه الحلمُ الأخير...
الحُلم الذي لم ينكسر، بل كَسَرَني.