الأنظمة القمعية في الشرق الأوسط: استبداد مستمر من الاحتلال إلى الحكم المعاصر
بقلم: د. عدنان بوزان
منذ فجر التاريخ، تتكرر أنماط الاحتلال والاستبداد بشكل مؤلم ولا إنساني. عند قراءة صفحات التاريخ، نجد أن السلطات الاحتلالية تبدأ غالباً بتجويع الشعوب، وتدمير بنيتهم الاجتماعية، وتعذيبهم بلا رحمة، وتشريدهم من ديارهم. هذه العمليات ليست عشوائية، بل هي استراتيجية محكمة تهدف إلى كسر إرادة الشعوب المحتلة وتحطيم مقاومتهم. يتوج هذا العنف بالاعتداء على النساء، ليس فقط لإذلال المجتمع وإفقاده الشعور بالأمان، بل لإحداث شرخ عميق في نسيجه الاجتماعي والثقافي.
في ظل هذه الأوضاع المأساوية، يتم إلحاق الشعوب المحتلة بنظام قمعي يمحو هويتهم ويجعلهم خاضعين بالكامل لسلطة الاحتلال. هذا السيناريو المألوف عبر التاريخ يطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة السلطة وآليات الوصول إليها. عند النظر إلى الواقع المعاصر، نرى أن هذه الأنماط ليست حكراً على القوى الأجنبية المحتلة، بل تمتد لتشمل العديد من الأحزاب والسلطات التي تصل إلى الحكم بطرق قد تبدو ديمقراطية أو وطنية في ظاهرها، لكنها في جوهرها تتصرف بعقلية الاحتلال. عندما تتولى هذه السلطات الحكم، تبدأ في تنفيذ سياسات قمعية ضد شعوبها، من تجويع، وتعذيب، وتشريد، وانتهاك للحقوق، وكأنها تعيد إنتاج نماذج الاستعمار البغيض.
هذه التصرفات تثير الشكوك حول حقيقة الانتماء الوطني لهذه السلطات. فالسلطة التي تمارس العنف والقمع ضد شعبها ليست سلطة شرعية بالمعنى الأخلاقي والإنساني. هي أشبه بسلطة لقيطة، غريبة عن الجسد الوطني، مدربة لخدمة مصالح خارجية أو شخصية ضيقة، وليست نتاجاً طبيعياً لإرادة الشعب وطموحاته.
عندما ننظر إلى كافة الأنظمة في الشرق الأوسط، نرى أنهم يتبعون نفس العقلية والتصرفات. هذا دليل إضافي على أن هؤلاء لقطاء السياسة، مدربين على تنفيذ أجندات ومشاريع تخدم مصالح خارجية أكثر من مصالح شعوبهم. على سبيل المثال، عندما ننظر إلى سلطة الأمر الواقع في روج آفا " شرق وشمال سوريا"، نجد أنهم يتصرفون بأساليب مشابهة مع الشعوب التي تحت سيطرتهم. يتجلى ذلك في تخفيض سعر الإنتاج الزراعي من القمح والشعير، ورفع أسعار المواد الغذائية الأساسية بشكل ناري. هذه السياسة تهدف بوضوح إلى تجويع السكان وتفريغ المنطقة من البقية المتبقية، مما يدل على أنهم ينفذون مشاريع وأجندات الأعداء.
في هذا السياق، يطرح السؤال: ما الفرق بين الإدارة الذاتية "الديمقراطية" في هذه المناطق وسلطة العصابات في عفرين التي تفرض الأتاوات على السكان الأصليين وتقوم بقتلهم وتشريدهم باسم الدين والقومية؟ في الحقيقة، لا يوجد فرق جوهري. كلا النظامين يستخدمان نفس أساليب القمع والاستغلال لتحقيق أهدافهما الخاصة على حساب معاناة الشعوب.
النظر إلى السلطة في عفرين يظهر كيف أن القوى المسيطرة هناك تتبع سياسة فرض الأتاوات على السكان الأصليين، وارتكاب جرائم القتل والتشريد تحت شعارات الدين والقومية. هذه التصرفات لا تختلف عن تكتيكات السلطات الأخرى في المنطقة، مما يعزز الاعتقاد بأن هذه الجماعات والأنظمة تتصرف وفق نفس النهج الاستبدادي.
التحليل للوضع في إدلب يعكس نفس النمط، حيث تفرض الجماعات المسلحة السيطرة بالقوة والعنف، متخذة من الدين غطاءً لتبرير تصرفاتها. السكان هناك يعانون من انتهاكات لحقوق الإنسان واستغلال للموارد المحدودة، مما يبرز نفس السياسات القمعية المتبعة في مناطق أخرى من سوريا.
في المقابل، نظام بشار الأسد يعتمد على القمع الوحشي للبقاء في السلطة. يستخدم النظام الأجهزة الأمنية والعسكرية النظامية، بالإضافة إلى استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، والتعذيب في السجون، وتجويع المناطق المحاصرة كجزء من استراتيجية الحرب. الفرق بين هذه العصابات ونظام بشار الأسد ضئيل من حيث الأساليب والأهداف. كلاهما يتبع نهج القمع والاستبداد لتحقيق السلطة والسيطرة، لكن يمكن تمييز بعض الاختلافات في السياق والأدوات.
نظام الأسد يحظى بدعم قوي من حلفاء مثل روسيا وإيران، مما يمنحه نوعاً من الشرعية الدولية رغم جرائمه، في حين أن العصابات في شرق الفرات وغربه، وعفرين، وإدلب، غالباً ما تكون مدعومة من قوى إقليمية أخرى، وتتغير تحالفاتها بشكل مستمر. نظام الأسد يمتلك بنية دولة مركزية معترف بها دولياً (رغم النزاعات)، ومؤسسات تابعة له، في حين أن العصابات تفتقر إلى البنية المركزية المنسقة، وتعتمد على الهيكلية اللامركزية والتفتيتية.
كل هذه القوى، سواء كانت سلطة الأمر الواقع في روج آفا "شرق وشمال سوريا"، أو العصابات في عفرين وإدلب، أو نظام بشار الأسد، تتشارك في استراتيجيات قمعية تهدف إلى الحفاظ على السيطرة من خلال الإخضاع والإرهاب. لا توجد سلطة حقيقية نابعة من إرادة الشعب وطموحاته، بل هي سلطات لقيطة، غريبة عن الأهداف الإنسانية والوطنية.
الشعوب التي تواجه هذه التحديات لا بد أن تدرك أن تحريرها الحقيقي يبدأ من الداخل، من خلال بناء مؤسسات قوية، وإرساء قيم العدالة والمساواة، ورفض كل أشكال القمع والاستبداد. هذه هي السبيل لضمان أن تكون السلطة انعكاساً حقيقياً لإرادة الشعب وطموحاته، وليست مجرد أداة لقمعه وإذلاله.