إعادة بناء العيش المشترك في سوريا: مسارات نحو السلام والتعايش في ما بعد الصراع

بقلم: د. عدنان بوزان

بعد أكثر من عقد من اندلاع الحراك السوري، الذي تحول سريعاً إلى صراع مسلح عنيف، تبرز الحاجة الماسة لفهم جديد لمفهوم العيش المشترك في سوريا، في ظل تحديات تعقدت بمرور الوقت تحت وطأة تدخلات خارجية واختلافات داخلية عميقة. الأزمة السورية، بتجلياتها العديدة، لم تكن مجرد نتيجة للتوترات السياسية الداخلية، بل كانت أيضاً نتاج تراكمات طويلة الأمد من السياسات التي مارسها نظام البعث، والتي عززت الانقسامات الطائفية والعرقية.

التحدي الأساسي الذي يواجهه العيش المشترك في سوريا يكمن في الإرث الثقيل لنظام حكم قائم بشكل أساسي على الاستبداد والتمييز، حيث كان الانتماء القومي أو الديني يحدد درجة المواطنة والحقوق. هذا الواقع أدى إلى تفكك النسيج الاجتماعي وخلق حالة من الفصل بين مكونات الشعب السوري، ما زاد الأمور تعقيداً وصعوبة في التوصل إلى حلول وسط تحترم التنوع وتحمي حقوق الجميع.

في هذا السياق، يعد الدور الدولي مزدوج التأثير؛ من ناحية، هناك الدعم الإنساني والضغوط الدولية لإنهاء النزاع، ومن ناحية أخرى، تدخلات بعض القوى الخارجية التي سعت إلى تعزيز مصالحها الخاصة، سواء من خلال الدعم العسكري للأطراف المتنازعة أو السعي للحفاظ على نفوذها الجيوسياسي في المنطقة. هذه التدخلات لم تسهم فقط في إطالة أمد الصراع، بل أيضاً في تعقيد مسار التوصل إلى حلول سياسية تحترم التنوع وتدعم العيش المشترك.

أمام هذا الواقع، يبرز السؤال الأهم: كيف يمكن إعادة بناء مفهوم العيش المشترك في سوريا؟ الإجابة تتطلب تعزيز مبادئ التسامح والاحترام المتبادل، والتي يجب أن تكون في قلب أي محاولة لإعادة البناء. يتطلب ذلك تعليماً يعزز الفهم المشترك والاعتراف بالتاريخ المشترك، وكذلك إعادة هيكلة السياسات لتكون أكثر شمولية وعدلاً، بحيث تُمثل جميع الفئات الدينية والعرقية في البنية الإدارية والسياسية للبلاد. هذه الخطوات ليست سهلة وتتطلب جهوداً مستمرة ومنسقة من جميع الأطراف السورية والدولية المعنية لإرساء أسس السلام والاستقرار في سوريا.

إعادة بناء الثقة بين المكونات المختلفة للمجتمع السوري أمر حاسم في هذه العملية. تحقيق العدالة والمساواة، وخاصة عبر المحاسبة على الجرائم التي ارتُكبت خلال الصراع، سيكون خطوة أساسية نحو ضمان عدم تكرار الأخطاء الماضية. ينبغي للنظام القضائي أن يكون عادلاً وغير متحيز، وأن يُظهر لجميع السوريين أنه يمكنهم الوثوق في النظام القانوني لحماية حقوقهم وحرياتهم.

بالإضافة إلى ذلك، من الضروري تطوير سياسات اقتصادية واجتماعية تعزز الاستقرار وتوفر الفرص لجميع المواطنين. تحقيق التنمية الشاملة يساهم في تقليل الشعور بالتهميش ويعزز الاندماج الاجتماعي. ويجب أن تكون هذه السياسات مصممة بطريقة تحفز النمو في جميع المناطق وتعزز الشعور بالانتماء لدى السوريين من جميع الخلفيات.

أيضاً، التواصل والحوار بين مختلف المكونات الثقافية والدينية في سوريا يمكن أن يلعب دوراً مهماً في إعادة بناء النسيج الاجتماعي. يجب تشجيع المبادرات التي تعمل على الحوار والتفاهم المتبادل، وكذلك تلك التي تسعى إلى تقديم نماذج إيجابية للتعايش المشترك.

إن الطريق نحو هذا المستقبل يتطلب تعاوناً وتضافراً للجهود من جميع الأطراف السورية والدولية. تعاون يجب أن يركز ليس فقط على إنهاء الصراع بشكل مستدام، ولكن أيضاً على إنشاء أسس لمجتمع يقوم على مبادئ العدالة، الإنصاف، والتنوع.

تُعتبر المصالحة الوطنية أساسية في هذه العملية. يجب أن تكون هناك إرادة سياسية لمعالجة الجروح التي تركتها الحرب والانقسامات الطويلة الأمد. هذا يعني تنفيذ برامج للمصالحة تشمل العدالة الانتقالية والتي تسمح بالاعتراف بالظلم وتقديم التعويضات للضحايا. كما يعني ذلك التأكيد على أن التاريخ السوري المشترك يجب أن يعلم بطريقة تحترم جميع وجهات النظر وتحافظ على الذاكرة الجماعية دون إثارة العداوات القديمة.

من الضروري أيضاً أن يتم تعزيز البنية التحتية للتعليم والثقافة في سوريا. التعليم يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في تغيير الأفكار والمواقف، وفي تعزيز فهم أعمق لأهمية التعايش والتنوع. ينبغي تطوير المناهج الدراسية لتعلم الاحترام المتبادل، التفاهم بين الثقافات، وتقدير التنوع كعنصر إثراء للمجتمع السوري.

في الجانب الاقتصادي، يجب أن تركز الجهود على إعادة بناء الاقتصاد السوري بطريقة تسمح بالتنمية المستدامة وتوفر فرصاً اقتصادية متساوية لجميع أطياف المجتمع. التنمية الاقتصادية المتوازنة يمكن أن تخفف من التوترات الاجتماعية وتعزز الشعور بالانتماء والاستقرار.

أخيراً، من الأهمية بمكان أن تكون هناك مشاركة أوسع من المجتمع المدني في عملية صنع القرار. المنظمات غير الحكومية، الجماعات المحلية، والشخصيات الدينية يجب أن يكون لها دور في مسار المصالحة وإعادة البناء. هذه المشاركة تعزز الشفافية وتضمن أن صوت جميع المكونات السورية مسموع ومحترم.

في ظل هذه الجهود المتعددة الأبعاد، يمكن لسوريا أن تنتقل نحو مستقبل أكثر استقراراً وسلاماً، حيث يتم تجسير الانقسامات وبناء مجتمع أكثر تماسكاً وتعاوناً. هذه العملية تتطلب الصبر والإصرار، لكن بالتزامن مع استراتيجية متكاملة وتعاون دولي فعّال، يمكن لسوريا أن تستعيد مكانتها كدولة تنبض بالحياة والتنوع، تقدم نموذجاً للتعايش في المنطقة.

الخطوة الأساسية في هذا الطريق تتطلب بناء الثقة، ليس فقط بين السوريين أنفسهم، بل أيضاً بين سوريا والمجتمع الدولي. هذا يعني تحقيق شفافية في الإجراءات الحكومية، وضمان مشاركة الأطراف المعنية في عملية السلام. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الحكومة السورية أن تظهر استعداداً حقيقياً لتنفيذ الإصلاحات الضرورية التي تعزز الحكم الرشيد وتحمي حقوق الإنسان.

على المستوى الإقليمي والدولي، من المهم أن تعمل الدول الفاعلة على تنسيق جهودها لدعم سوريا، ليس فقط في مجال الأمن ولكن أيضاً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذا التعاون يجب أن يتم بطريقة تحترم سيادة سوريا وتعكس احتياجات الشعب السوري، مع التركيز على الاستقرار طويل الأمد وليس فقط الحلول السريعة.

المسار إلى السلام والتعايش في سوريا طويل ومليء بالتحديات، لكن بالعزم والتعاون يمكن تجاوز هذه العقبات. من خلال العمل المشترك والإصرار على احترام التنوع وحقوق الإنسان، يمكن لسوريا أن تبني مستقبلاً ينعم بالسلام والازدهار لجميع مواطنيها.

في نهاية المطاف، التحدي الأكبر يكمن في إعادة تعريف الهوية الوطنية بما يتجاوز الانقسامات السياسية والطائفية الحالية. يجب أن تُبنى هذه الهوية على أساس القيم المشتركة والاحترام المتبادل والإرث الثقافي والتاريخي الغني الذي يميز سوريا. من خلال تعزيز هذه القيم، يمكن لسوريا أن تجد طريقها نحو مستقبل أكثر سلاماً واستقراراً، حيث يُنظر إلى التنوع كمصدر قوة وليس كسبب للانقسام.

أضف تعليق


كود امني
تحديث

X

تحذير

لا يمكن النسخ!