قراءة للوضع السوري: تطورات الميدان ومآلات الصراع
بقلم: د. عدنان بوزان
الحرب السورية دخلت مرحلة جديدة ومعقدة، تتسم بتغيرات عميقة في طبيعة الصراع وتحول موازين القوى على الأرض. منذ أكثر من عقد، كانت سوريا مسرحاً لصراعات متعددة الأوجه، حيث تداخلت الأجندات الإقليمية والدولية، وانقسمت البلاد بين أطراف مختلفة، كل منها يسعى لتحقيق أهدافه الخاصة. ومع ذلك، يبدو أن التطورات الأخيرة تشير إلى منعطف حاسم في هذا الصراع، حيث تتعرض الفصائل المسلحة لهزائم ميدانية متكررة، تعكس تراجع قدرتها على التأثير في مجريات الأحداث، في وقت يعيد فيه النظام السوري تثبيت أقدامه مدعوماً بتحالفات إقليمية ودولية غير معلنة.
هذه المرحلة تحمل في طياتها مؤشرات على انتهاء فصل من فصول الصراع وبدء فصل جديد، يتسم بإعادة ترتيب المشهد السياسي والعسكري في سوريا. الهزائم التي تعرضت لها الفصائل المسلحة، بما في ذلك فشل الهجمات الأخيرة في حلب وحماة، وتراجع محاولات السيطرة على مناطق استراتيجية مثل تل رفعت، تعكس تحولاً عميقاً في ديناميكيات الصراع. في المقابل، يشير الدعم المستمر الذي يتلقاه النظام السوري من حلفائه، وعلى رأسهم روسيا وإيران، إلى توافق ضمني بين أطراف إقليمية ودولية على إعادة تدوير النظام السوري كضامن لاستقرار نسبي، بانتظار حل سياسي شامل.
ومع هذه التحولات، يتجلى مشهد جديد يعيد صياغة طبيعة الحرب السورية، حيث تبدو الفصائل المسلحة على وشك الانضمام إلى قائمة الإرهاب الدولية، مما يمهد الطريق لإزاحتها من المعادلة الميدانية تماماً. في الوقت ذاته، تصاعدت الإشارات إلى وجود تفاهمات غير معلنة بين إيران وإسرائيل، تصب في مصلحة بقاء النظام السوري، ما يعكس بوضوح أن الحرب لم تعد مجرد صراع داخلي، بل أصبحت منصة لتبادل الرسائل وإعادة ترتيب المصالح الإقليمية والدولية.
في ظل هذه التطورات، تزداد المؤشرات على أن سوريا تتجه نحو تطبيق النظام الفيدرالي كإطار لإدارة البلاد، مع استمرار التحركات لتطبيق القرار الأممي 2254. هذه الديناميكيات تشير إلى أننا على أعتاب مرحلة جديدة تتسم بإعادة هيكلة سوريا سياسياً، ضمن توازنات تفرضها القوى الكبرى والإقليمية، ولكنها في الوقت ذاته تثير تساؤلات حول مستقبل الدولة السورية ووحدة أراضيها في ظل هذا النظام الجديد.
- فشل الهجمات الأخيرة: دلالات استراتيجية
1- هجوم هيئة تحرير الشام على حلب وحماة:
المحاولة الأخيرة لجبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) المصنف إرهابياً للزحف باتجاه مناطق سيطرة النظام وسيطرة حلب وفي حماة قوبلت بصد عنيف من قبل الجيش السوري وحلفائه، مما أدى إلى فشل الهجوم. هذه التطورات تعكس تراجعاً كبيراً في قدرة هذه الفصائل على تحقيق اختراقات ميدانية، خاصة مع انعدام الدعم الدولي الفعّال واستمرار الاستنزاف العسكري.
2- فشل الجيش الوطني المدعوم تركياً في تل رفعت:
الهجوم الذي قادته فصائل "الجيش الوطني السوري" المدعومة من تركيا للسيطرة على منطقة تل رفعت باء بالفشل. هذا يعكس ليس فقط حدود النفوذ التركي في إدارة الفصائل المسلحة، بل أيضاً تكشف عن تزايد التوترات بين المصالح التركية والروسية، حيث يبدو أن موسكو تعمل على منع أي تمدد تركي إضافي في الشمال السوري.
- تصنيف الفصائل المسلحة كإرهابية: مرحلة جديدة من الصراع
مع تراجع الفصائل المسلحة وفشلها في تحقيق أهدافها العسكرية، تشير المؤشرات إلى أن هذه الجماعات، بما فيها هيئة تحرير الشام وفصائل الجيش الوطني، قد تُدرج قريباً على قوائم الإرهاب الدولية. هذا التصنيف سيضعها في خانة واحدة مع تنظيم "داعش"، مما يمهد الطريق لاستهدافها بضربات جوية من قبل التحالف الدولي أو حتى من قبل روسيا والنظام السوري.
هذا السيناريو يعني فعلياً "محو" المعارضة المسلحة من المشهد السوري، وإعادة تعريف الصراع كمعركة ضد الإرهاب، وهو ما سيمنح النظام السوري مزيداً من الشرعية الدولية.
- إعادة تدوير النظام السوري: التفاهم الإيراني-الإسرائيلي
واحدة من أبرز التغيرات في المشهد السوري هي التفاهمات غير المعلنة بين إيران وإسرائيل، والتي تبدو موجهة نحو الإبقاء على نظام بشار الأسد كضامن للاستقرار في سوريا على المدى القصير.
• إيران: ترى في بقاء الأسد أداة لتعزيز نفوذها في المنطقة وضمان تواجدها العسكري والاقتصادي في سوريا.
• إسرائيل: رغم العداء العلني مع إيران، يبدو أن إسرائيل تفضل بقاء نظام مركزي ضعيف في دمشق على الفوضى التي قد تنتج عن انهيار الدولة السورية.
هذا التفاهم غير المباشر يتيح للنظام السوري فرصة لإعادة التموضع، حيث يستمر في حكم البلاد بغطاء دولي ضمني، حتى يتم الاتفاق على حل سياسي شامل.
- النظام الفيدرالي كحل للأزمة السورية:
مع انسداد الأفق أمام الحلول العسكرية، يبدو أن النظام الفيدرالي بات الخيار الأكثر قبولاً دولياً لإدارة الأزمة السورية. القرار الأممي 2254 يدعو إلى عملية انتقال سياسي تشمل جميع الأطراف السورية، ويمكن أن يشكل أساساً لتقسيم البلاد إلى مناطق حكم ذاتي، مع احتفاظ دمشق بسلطة رمزية مركزية.
• مناطق النظام: ستبقى تحت سيطرته المباشرة، مع ضمان الدعم الروسي والإيراني.
• المناطق الكوردية: ستتمتع بدرجة من الحكم الذاتي، مع الحفاظ على علاقات مع الولايات المتحدة.
• المناطق المتبقية: سيتم العمل على دمجها في الهيكل الفيدرالي، بعد تصفية الفصائل المسلحة وإعادة تأهيلها سياسياً أو عسكرياً.
الخاتمة: ملامح المرحلة المقبلة
فشل الهجمات الأخيرة، إدراج الفصائل المسلحة على قوائم الإرهاب، والتفاهمات الإقليمية حول النظام السوري، كلها مؤشرات على تحول جذري في مسار الصراع السوري. إعادة تدوير النظام السوري ليست سوى مرحلة انتقالية، تهدف إلى تثبيت استقرار هش بانتظار تطبيق الحل السياسي وفق القرار 2254. ومع تصاعد الحديث عن الفيدرالية كخيار مستقبلي، تبدو سوريا على أعتاب مرحلة جديدة من إعادة الهيكلة السياسية، قد تكون أكثر استقراراً، لكنها لن تخلو من التحديات الداخلية والإقليمية.