تحليل سياسي: حول تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن حرب أوكرانيا
- Super User
- التحاليل السياسية
- الزيارات: 1309
بقلم: د. عدنان بوزان
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، ظل المشهد السياسي الدولي متأرجحاً بين التصعيد العسكري والمساعي الدبلوماسية غير المثمرة، في ظل تباين المصالح بين القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا. وفي هذا السياق المضطرب، جاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تحدث فيها عن إمكانية إنهاء الحرب خلال أسابيع، لتثير العديد من التساؤلات حول طبيعة الاستراتيجية الأميركية في التعامل مع هذا الصراع المتشابك. فهل يعكس هذا التصريح توجهاً جديداً لدى واشنطن لإنهاء الحرب عبر وسائل غير تقليدية، أم أنه مجرد مناورة سياسية تهدف إلى إعادة رسم الدور الأميركي في النزاع؟ كما أن الربط بين إنهاء الحرب والاتفاق الاقتصادي مع أوكرانيا يفتح الباب أمام تساؤلات أخرى بشأن مدى تأثير العوامل الاقتصادية على مجريات الصراع، ومدى واقعية الرؤية التي يطرحها البيت الأبيض، خاصة في ظل استمرار المواجهات العسكرية والتوترات السياسية بين الأطراف المعنية. كل هذه التساؤلات تجعل من الضروري التعمق في تحليل هذه التصريحات، واستكشاف دلالاتها المحتملة في سياق المشهد الجيوسياسي الحالي.
1- التوظيف السياسي لتصريحات ترامب:
جاء تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن إمكانية إنهاء الحرب في أوكرانيا خلال أسابيع في إطار لقاء دبلوماسي رفيع المستوى جمعه بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو ما يعكس بعدين أساسيين في النهج السياسي الأميركي تجاه هذا الصراع. فمن جهة، يمثل هذا التصريح محاولة لإعادة صياغة مقاربة واشنطن في إدارة الأزمة الأوكرانية، بما يتناسب مع توجهات ترامب السياسية التي طالما شددت على ضرورة تقليل الأعباء الأميركية في الصراعات الخارجية. ومن جهة أخرى، فإنه يبرز استراتيجية أميركية تستهدف تحميل أوروبا مسؤولية أكبر في إنهاء الحرب، سواء على المستوى الدبلوماسي أو الأمني، وهو ما يتماشى مع الخط العام الذي تبناه ترامب خلال رئاسته فيما يتعلق بالتحالفات الدولية، حيث كان يدفع بشكل مستمر نحو تقليص الدور الأميركي المباشر، مطالباً الدول الأوروبية بالاضطلاع بمسؤولياتها في القضايا الدفاعية والأمنية بدلاً من الاعتماد المفرط على الدعم الأميركي.
وفي السياق نفسه، يمكن النظر إلى هذه التصريحات على أنها جزء من استراتيجية أوسع للضغط على الحلفاء الأوروبيين لاتخاذ مواقف أكثر فاعلية تجاه النزاع، سواء من خلال زيادة الإنفاق العسكري أو تحمل مسؤولية التفاوض مع موسكو للوصول إلى تسوية سياسية. وهذا الطرح يتماشى مع التوجه الأميركي المتنامي لإعادة ترتيب الأولويات الجيوسياسية، حيث تسعى واشنطن إلى التركيز على تحديات أخرى، مثل التنافس مع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بدلاً من الانخراط العميق في صراعات أوروبية طويلة الأمد.
وعلاوة على ذلك، فإن اختيار ترامب لهذا التوقيت بالذات لإطلاق مثل هذه التصريحات قد يكون مرتبطاً بحسابات سياسية داخلية، سواء فيما يتعلق بالانتخابات الأميركية أو بموقفه من الدعم العسكري المستمر لأوكرانيا. فلطالما كان هناك انقسام داخل الولايات المتحدة حول حجم الدعم المقدم لكييف، حيث يعارض بعض التيارات المحافظة في الحزب الجمهوري استمرار التدفقات المالية والعسكرية إلى أوكرانيا، معتبرين أن هذه الموارد يجب أن تُوجه لمعالجة القضايا الداخلية بدلاً من التورط في حرب خارجية قد لا تحقق نتائج استراتيجية واضحة للولايات المتحدة.
بالتالي، فإن تصريحات ترامب يمكن قراءتها في سياق محاولة إعادة تشكيل دور أميركا في الصراع الأوكراني، من خلال تقليل التورط المباشر وتحويل العبء نحو أوروبا، مع الحفاظ على النفوذ الأميركي عبر الوسائل الاقتصادية والاتفاقات الثنائية مع كييف، وهو ما يجعل من الضروري متابعة كيفية استجابة الحلفاء الأوروبيين لهذه الرؤية، ومدى تقبلهم لتحمل مسؤوليات إضافية في هذا الملف الشائك.
2- التحليل الاستراتيجي لسيناريو إنهاء الحرب:
يتضمن حديث ترامب إشارتين محوريتين: الأولى تتعلق بإمكانية إنهاء الصراع خلال "أسابيع"، والثانية تربط وقف القتال باتفاق اقتصادي متعلق بالمعادن بين واشنطن وكييف. هذه التصريحات تتطلب تفكيكاً دقيقاً:
أ- الإطار الزمني القصير لإنهاء الحرب:
تبدو تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن إمكانية إنهاء الحرب في أوكرانيا خلال أسابيع متفائلة إلى حد كبير، خاصة عند النظر إلى تعقيد المشهد العسكري والسياسي الذي يحيط بهذا النزاع. فمن غير الواقعي تصور انتهاء حرب بهذا الحجم وبهذه السرعة، إلا إذا حدثت تغييرات جذرية في موازين القوى أو تم التوصل إلى تفاهمات سياسية سرية بين الأطراف الفاعلة، بما في ذلك روسيا وأوكرانيا والقوى الغربية. ومع ذلك، فإن أي اتفاق سريع قد يتطلب تنازلات كبرى من أحد الأطراف، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل تزايد التوترات والمواقف المتصلبة من جميع الجهات.
إن الصراعات الممتدة، وخاصة تلك التي تحمل أبعاداً جيوسياسية عميقة مثل حرب أوكرانيا، لا تنتهي في العادة بقرارات منفردة أو مفاوضات سريعة، بل تتطلب عمليات تفاوض طويلة ومعقدة تستند إلى توازنات ميدانية وسياسية. وفي هذه الحالة، لا يزال القتال مستمراً على الأرض، مع استمرار التصعيد العسكري واستخدام الأسلحة الثقيلة، مما يعكس إصرار الطرفين على تحقيق مكاسب ميدانية قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات. هذا الواقع يجعل من الصعب تصور إنهاء الحرب في فترة قصيرة دون تحولات جذرية، مثل انهيار إحدى الجبهات عسكرياً أو حدوث ضغط دبلوماسي غير مسبوق من قبل الأطراف الفاعلة، وهو أمر لم تتضح ملامحه حتى الآن.
علاوة على ذلك، فإن التصريحات الأميركية والغربية حول دعم كييف المستمر تعكس نية لإطالة أمد الصراع بدلاً من إنهائه في المستقبل القريب، حيث ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها أن أي وقف سريع للقتال قد يمنح روسيا مكاسب استراتيجية، خاصة إذا لم يتم التوصل إلى تسوية شاملة تشمل انسحاب القوات الروسية أو تقديم ضمانات أمنية طويلة الأمد لأوكرانيا. ومن هذا المنطلق، فإن إنهاء الحرب خلال أسابيع يبدو غير واقعي إلا إذا تم التوصل إلى اتفاق غير معلن بين موسكو وواشنطن، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل تعقيدات المشهد الدولي وتضارب المصالح بين القوى الكبرى.
أما من ناحية الحلول الدبلوماسية، فإن أي مفاوضات سلام تحتاج إلى بناء جسور ثقة بين الأطراف المتحاربة، وهو ما يتطلب وقتاً طويلاً، خاصة أن أوكرانيا تطالب بضمانات أمنية وسياسية واسعة قبل إنهاء القتال، في حين تسعى روسيا إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية من خلال فرض واقع جديد على الأرض. وبالتالي، فإن الحديث عن إنهاء الصراع في غضون أسابيع قد يكون أقرب إلى خطاب سياسي موجه للداخل الأميركي، أو محاولة للضغط على أوروبا وأوكرانيا لإبداء مرونة أكبر في المفاوضات، لكنه لا يعكس بالضرورة واقع الصراع على الأرض.
بناءً على هذه المعطيات، يمكن القول إن السيناريو الوحيد الذي قد يسمح بإنهاء الحرب خلال فترة قصيرة هو حدوث اختراق دبلوماسي كبير يقبل به جميع الأطراف، أو فرض واقع عسكري جديد يجبر أحد الطرفين على التراجع، وكلا الاحتمالين لا يبدو قريب التحقق في ظل الظروف الحالية. لذا، فإن تصريحات ترامب قد تكون مجرد محاولة لإعادة توجيه النقاش حول دور الولايات المتحدة في الأزمة، دون أن تعكس بالضرورة مساراً واقعياً لإنهاء النزاع القائم.
ب- البُعد الاقتصادي والصفقة الأميركية الأوكرانية:
تشير تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أن إنهاء الحرب في أوكرانيا قد يكون مرتبطاً باتفاق اقتصادي بين واشنطن وكييف، وتحديداً فيما يتعلق بقطاع المعادن، وهو ما يسلط الضوء على دور المصالح الاقتصادية في الصراعات الجيوسياسية. هذا الربط بين الجوانب الاقتصادية والسياسية يعكس توجهاً استراتيجياً تتبناه الولايات المتحدة في التعامل مع النزاعات الدولية، حيث تستخدم الاتفاقات التجارية والاستثمارات كوسيلة للتأثير على قرارات الدول المتحاربة، سواء عبر تحفيزها على التفاوض أو عبر منحها بدائل اقتصادية تُقلل من حاجتها إلى استمرار القتال.
في هذا السياق، يمكن فهم الصفقة المحتملة على أنها محاولة لإعادة توجيه الأولويات الأوكرانية، بحيث تتحول كييف من التركيز على الحرب إلى البحث عن استقرار اقتصادي مستدام من خلال الشراكة مع واشنطن. فإذا شمل الاتفاق استثمارات أميركية ضخمة في قطاع المعادن الأوكراني، فقد يعني ذلك تأمين تدفقات مالية جديدة تساهم في إعادة إعمار البنية التحتية وتعويض جزء من الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الحرب، وهو ما قد يجعل أوكرانيا أكثر ميلاً للتفاوض على تسوية سياسية بدلاً من الاستمرار في المواجهة العسكرية.
إلى جانب ذلك، فإن هذا الاتفاق قد يحمل أبعاداً استراتيجية تتجاوز مجرد الاستثمارات الاقتصادية، إذ يمكن أن يكون جزءاً من خطة أميركية أوسع لتعزيز السيطرة الغربية على الموارد الطبيعية الأوكرانية، خاصة في ظل التنافس الاقتصادي العالمي على المعادن النادرة، التي تلعب دوراً حيوياً في الصناعات التكنولوجية والعسكرية. وبهذا المعنى، قد لا يكون الهدف الرئيسي من الصفقة هو مجرد إنهاء الحرب، بل تأمين النفوذ الأميركي في أوكرانيا على المدى الطويل، وضمان عدم وقوع هذه الموارد في أيدي روسيا أو دول أخرى قد تنافس الولايات المتحدة اقتصادياً.
لكن رغم هذه الحسابات الاقتصادية، فإن أحد التحديات الرئيسية أمام هذا السيناريو يتمثل في مدى قدرة مثل هذه الصفقة على إقناع موسكو بوقف عملياتها العسكرية. فروسيا، التي تعتبر أوكرانيا جزءاً من مجال نفوذها التقليدي، قد تنظر إلى أي اتفاق اقتصادي بين كييف وواشنطن على أنه خطوة تهدد مصالحها الاستراتيجية، خصوصاً إذا تضمن الاتفاق بنوداً تعزز ارتباط أوكرانيا بالغرب بشكل أكبر. ومن هذا المنطلق، فإن موسكو قد ترى في هذا الاتفاق سبباً لمواصلة الحرب بدلاً من إنهائها، خاصة إذا اعتبرت أن خروج أوكرانيا من دائرة النفوذ الروسي لصالح النفوذ الأميركي هو خسارة غير مقبولة على المستوى الجيوسياسي.
علاوة على ذلك، فإن إقناع أوكرانيا بقبول صفقة اقتصادية كبديل عن الدعم العسكري قد يكون أمراً معقداً، خاصة أن كييف تعتمد بشكل أساسي على المساعدات الغربية في استمرار مقاومتها العسكرية. فإذا كانت هذه الصفقة تعني تقليل الدعم العسكري مقابل ضمانات اقتصادية، فقد تواجه معارضة من النخب السياسية الأوكرانية التي ترى في استمرار القتال ضرورة للحفاظ على وحدة البلاد واستقلالها عن النفوذ الروسي.
في المحصلة، بينما يمكن للبعد الاقتصادي أن يكون عاملاً مؤثراً في إنهاء النزاع، فإن نجاحه يعتمد على مدى قدرة الأطراف المختلفة على تحقيق توازن بين المصالح الاقتصادية والاستراتيجية. كما أن أي اتفاق لا يأخذ في الاعتبار المخاوف الأمنية والعسكرية لأوكرانيا وروسيا معاً قد يكون غير كافٍ لإنهاء الحرب، بل قد يؤدي إلى مزيد من التعقيد بدلاً من إيجاد حل سريع ومستدام.
3- الأبعاد الجيوسياسية ومسؤولية أوروبا:
تُسلط تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الضوء على تحول استراتيجي متزايد في السياسة الأميركية تجاه الصراع في أوكرانيا، حيث يؤكد على ضرورة أن تتحمل الدول الأوروبية مسؤولية الحفاظ على السلام هناك بدلاً من الاعتماد على الدور الأميركي المباشر. هذا الموقف ليس جديداً تماماً، لكنه يأتي في سياق أكثر تعقيداً، حيث تتزايد التحديات الجيوسياسية التي تواجه أوروبا في ظل استمرار النزاع، وتتصاعد الأسئلة حول مدى قدرة القارة العجوز على لعب دور مستقل عن المظلة الأمنية الأميركية.
أ- التحولات في الموقف الأميركي: تقليل الانخراط المباشر؟:
يبدو أن واشنطن، من خلال هذا الطرح، تسعى إلى إعادة توزيع أعباء الأمن الأوروبي، بما ينسجم مع التوجهات التي تبناها ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض. فمنذ البداية، كان موقفه واضحاً في مطالبة حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين بزيادة مساهمتهم في الشؤون الأمنية والدفاعية، وعدم الاعتماد بشكل كلي على الدعم الأميركي. وقد عكست هذه السياسة بوضوح توجهاً نحو تقليل الانخراط الأميركي المباشر في الأزمات الدولية، خاصة في أوروبا، التي لا تزال تعتمد على الولايات المتحدة في مواجهة التحديات الأمنية الكبرى، سواء عبر الناتو أو من خلال التحالفات الثنائية.
في هذا السياق، فإن تحميل أوروبا مسؤولية أكبر في ملف أوكرانيا قد يعني عدة أمور، أبرزها دفع الحلفاء الأوروبيين إلى اتخاذ أدوار أكثر فاعلية في التفاوض مع موسكو، أو حتى التفكير في إرسال قوات حفظ سلام أوروبية، كما ألمح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لكن هذا الطرح يواجه عقبات كبيرة، إذ أن أي تدخل أوروبي مباشر قد يؤدي إلى تصعيد إضافي مع روسيا، وهو ما يشكل تهديداً للأمن الأوروبي نفسه.
ب- غياب سياسة دفاعية أوروبية موحدة:
أحد أبرز التحديات التي تواجه هذا السيناريو هو أن أوروبا، رغم وحدتها في دعم كييف سياسياً وعسكرياً، لا تمتلك سياسة دفاعية موحدة خارج إطار حلف الناتو. فالاتحاد الأوروبي، رغم امتلاكه بعض الهياكل الدفاعية المشتركة، لا يزال يعتمد بشكل شبه كامل على القدرات العسكرية الأميركية لضمان الأمن في القارة، خاصة في ظل الفجوات الدفاعية بين الدول الأوروبية وتباين أولوياتها الأمنية.
على سبيل المثال، بينما تدعم بعض الدول مثل بولندا ودول البلطيق أي مبادرة لزيادة الانخراط الأوروبي في أوكرانيا، فإن دولاً أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا تميل إلى الحذر الشديد في هذا الملف، خوفاً من ردود الفعل الروسية. وحتى فرنسا، التي تحاول تقليدياً لعب دور أكثر استقلالية في السياسة الأوروبية، لا تستطيع وحدها دفع القارة نحو تبني موقف عسكري موحد تجاه أوكرانيا.
هذه الانقسامات تجعل من الصعب تحقيق استراتيجية أوروبية موحدة دون استمرار الدعم الأميركي، حيث لا تزال الولايات المتحدة تشكل العمود الفقري لحلف الناتو، وتمتلك القدرات العسكرية والتكنولوجية والاستخباراتية التي لا تستطيع أوروبا تعويضها بسهولة. وبالتالي، فإن أي محاولة لتحميل أوروبا مسؤولية أكبر دون توفير غطاء أميركي سيواجه تحديات كبيرة على المستوى العملي.
ج- التداعيات المحتملة على العلاقات الأوروبية-الأميركية:
من ناحية أخرى، فإن هذا التوجه الأميركي قد يثير توترات داخلية بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. فبينما تحاول واشنطن تقليل التزاماتها الأمنية، فإن الدول الأوروبية قد تجد نفسها مضطرة لزيادة إنفاقها الدفاعي وتعزيز قدراتها العسكرية، وهو ما قد يؤدي إلى جدل داخلي حول توزيع الموارد وأولويات السياسات الخارجية.
كما أن تقليل الانخراط الأميركي قد يؤدي إلى تعزيز الأصوات داخل أوروبا التي تطالب باستقلالية استراتيجية أكبر، وهو ما قد ينعكس على العلاقة بين واشنطن وبروكسل. فقد شهدت السنوات الأخيرة دعوات متزايدة لإنشاء "جيش أوروبي مشترك"، وهو طرح لا يزال يواجه صعوبات سياسية ولوجستية، لكنه قد يكتسب زخماً إذا استمرت الولايات المتحدة في تقليص دورها في القارة.
د- هل يمكن تحقيق السلام الأوروبي دون دور أميركي فاعل؟:
بالنظر إلى هذه العوامل، يصبح من الواضح أن تحقيق السلام في أوكرانيا دون مشاركة أميركية فاعلة سيكون أمراً في غاية الصعوبة. فحتى لو قررت الدول الأوروبية زيادة دورها في المفاوضات أو تعزيز دعمها العسكري لكييف، فإن الضغط الدبلوماسي المطلوب على موسكو، والتوازنات الأمنية الإقليمية، لا تزال تعتمد على النفوذ الأميركي.
علاوة على ذلك، فإن روسيا نفسها قد لا تأخذ أي مبادرة أوروبية على محمل الجد ما لم تكن مدعومة بشكل مباشر من قبل واشنطن. فحتى الآن، كانت روسيا أكثر اهتماماً بالتفاوض مع الولايات المتحدة مقارنة بالدول الأوروبية، باعتبار أن القرار الاستراتيجي النهائي بشأن مستقبل أوكرانيا لا يزال يعتمد بشكل أساسي على مواقف البيت الأبيض وليس بروكسل أو باريس أو برلين.
في الختام، على الرغم من أن تصريحات ترامب تعكس توجهاً أميركياً متزايداً نحو تحميل أوروبا مسؤولية أكبر، إلا أنه لا يمكن اعتبارها تحولاً استراتيجياً طويل الأمد في السياسة الأميركية. فمن غير المرجح أن تتخلى واشنطن عن نفوذها في أوروبا، خاصة في ظل التنافس مع روسيا والصين. ولذلك، فإن ما نشهده حالياً قد يكون مجرد إعادة توزيع للأدوار بين الولايات المتحدة وحلفائها، وليس انسحاباً كاملاً من الملف الأوكراني.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع أوروبا تحمل مسؤولية أمنها بشكل مستقل؟ حتى الآن، لا يبدو أن القارة مستعدة لذلك، ما يعني أن الدور الأميركي سيظل حاسماً، سواء في إدارة الأزمة الأوكرانية أو في تشكيل مستقبل النظام الأمني الأوروبي بشكل عام.
4- موقف روسيا وزيلينسكي والمفاوضات المحتملة:
تعكس تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن احتمال لقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وجود إمكانية لفتح قنوات تواصل دبلوماسية غير معلنة بين موسكو وواشنطن، مما قد يشير إلى محاولات لإيجاد تفاهمات أوسع تتجاوز الأزمة الأوكرانية. ومع ذلك، فإن عدم تحديد موعد أو إطار زمني واضح لهذا اللقاء يعكس تعقيدات الحسابات السياسية لكل من الجانبين، حيث تظل موسكو حذرة من أي تحركات قد تؤثر على موقفها الاستراتيجي في الصراع.
أ- الموقف الروسي: حذر استراتيجي ومطالب واضحة:
من الناحية الروسية، فإن فكرة التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة ليست جديدة، إذ لطالما اعتبرت موسكو أن حل النزاع في أوكرانيا يجب أن يتم من خلال اتفاقات بين القوى العظمى وليس فقط عبر محادثات مع كييف. فقد أشار الكرملين في أكثر من مناسبة إلى أن أوكرانيا ليست سوى طرف في صراع أوسع بين روسيا والغرب، وهو ما يجعل أي مفاوضات حقيقية تتطلب إشراك واشنطن وحلفائها الأوروبيين بشكل مباشر.
لكن رغم ذلك، فإن روسيا تتعامل بحذر مع أي مبادرات أميركية جديدة، خاصة في ظل غياب ضمانات واضحة تلبي مصالحها الاستراتيجية. فمنذ بداية الحرب، حددت موسكو عدة خطوط حمراء تتعلق بمستقبل أوكرانيا، وأهمها رفض انضمام كييف إلى حلف الناتو، والاعتراف بضم المناطق التي سيطرت عليها روسيا، وضمان وضع أمني جديد يمنع أوكرانيا من أن تكون قاعدة متقدمة للنفوذ الغربي. وبالتالي، فإن أي مفاوضات محتملة بين بوتين وترامب ستدور بشكل أساسي حول مدى استعداد واشنطن لتقديم تنازلات في هذه القضايا الحساسة.
علاوة على ذلك، فإن توقيت أي لقاء محتمل بين ترامب وبوتين سيكون عاملاً حاسماً في تحديد نتائجه، حيث إن روسيا تفضل التفاوض من موقع قوة، وهو ما يعني أنها قد تستمر في العمليات العسكرية بهدف تحسين وضعها التفاوضي قبل أي محادثات جادة. وبالتالي، فإن عدم تحديد موعد لهذا اللقاء قد يكون انعكاسًا لرغبة موسكو في الانتظار حتى يتضح ميزان القوى على الأرض، أو ربما حتى الانتخابات الأميركية القادمة، التي قد تؤثر بشكل كبير على سياسة واشنطن تجاه الصراع.
ب- زيارة زيلينسكي المحتملة إلى واشنطن:
بين الضغوط والمكاسب: أما فيما يخص زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المحتملة إلى واشنطن، فإنها قد تحمل دلالات متعددة، سواء فيما يتعلق بمناقشة تفاصيل الاتفاق الاقتصادي الذي أشار إليه ترامب، أو في إطار جهود كييف لضمان استمرار الدعم الأميركي في ظل حديث متزايد عن تقليص الانخراط الأميركي المباشر في الحرب.
على مدار الأشهر الماضية، واجه زيلينسكي ضغوطاً متزايدة، سواء من الداخل الأوكراني أو من حلفائه الغربيين. فمن جهة، هناك تزايد في التحديات العسكرية التي تواجه القوات الأوكرانية، مع تصاعد الهجمات الروسية وتعثر الهجمات المضادة التي راهنت عليها كييف سابقاً. ومن جهة أخرى، هناك قلق متزايد في أوكرانيا من أن تراجع اهتمام واشنطن بالحرب قد يؤدي إلى تقليل الدعم المالي والعسكري، خاصة في ظل الانقسامات داخل الكونغرس الأميركي حول استمرار تمويل أوكرانيا.
في هذا السياق، قد تكون زيارة زيلينسكي إلى واشنطن محاولة للحصول على تأكيدات بشأن استمرار الدعم العسكري، أو حتى للتفاوض على صفقات اقتصادية تعزز قدرة بلاده على الصمود. فإذا كان الاتفاق الاقتصادي الذي أشار إليه ترامب يتعلق بموارد أوكرانيا، فمن المحتمل أن يسعى زيلينسكي للحصول على شروط تضمن استفادة كييف من هذه الصفقات، وعدم تحولها إلى مجرد وسيلة لتعزيز المصالح الأميركية دون تقديم ضمانات أمنية حقيقية لأوكرانيا.
ج- المفاوضات المحتملة: سيناريوهات متعددة:
في ظل هذه المعطيات، يمكن تصور عدة سيناريوهات للمفاوضات المحتملة بين الأطراف المعنية بالصراع الأوكراني:
1- مفاوضات مباشرة بين واشنطن وموسكو: إذا قررت الولايات المتحدة وروسيا التوصل إلى تفاهمات كبرى، فقد نشهد مساراً تفاوضياً مباشراً بين بوتين وترامب، خاصة إذا أصبح الأخير أكثر انفتاحاً على تقديم تنازلات مقابل إنهاء الحرب بسرعة.
2- تفاهمات غير مباشرة عبر أوروبا: قد يتم استخدام فرنسا وألمانيا كوسيطين لنقل الرسائل بين موسكو وواشنطن، خاصة إذا أرادت الولايات المتحدة تقليل انخراطها المباشر في التفاوض.
3- ضغوط على أوكرانيا للقبول بتسوية سياسية: إذا وجدت واشنطن أن استمرار الحرب لم يعد يخدم مصالحها، فقد تضغط على كييف للقبول بتسوية قد تتضمن تنازلات مؤلمة، مثل القبول بوضع خاص للمناطق التي ضمتها روسيا.
4- تصعيد روسي لفرض شروطه التفاوضية: إذا شعرت موسكو بأن المفاوضات لا تسير لصالحها، فقد تختار تصعيد عملياتها العسكرية بهدف تحسين وضعها التفاوضي قبل أي اتفاق محتمل.
ختاماً: هل نحن أمام بداية مسار تفاوضي جاد؟
في ظل هذه التطورات، يبقى السؤال الأساسي: هل تعكس هذه التحركات بداية مسار تفاوضي جاد يمكن أن ينهي الحرب، أم أنها مجرد مناورات دبلوماسية تهدف إلى اختبار مواقف الأطراف المختلفة؟ حتى الآن، لا توجد مؤشرات واضحة على أن أي طرف مستعد لتقديم تنازلات كبرى، مما يجعل احتمالية التوصل إلى اتفاق سريع أمراً صعباً. ومع ذلك، فإن الحديث عن لقاء بين ترامب وبوتين، وزيارة زيلينسكي إلى واشنطن، يشير إلى أن هناك جهوداً لإعادة صياغة المشهد الدبلوماسي، وإن كانت نتائجها غير مضمونة في المدى القريب.
الخلاصة:
تصريحات ترامب تمثل محاولة لإعادة توجيه السياسة الأميركية في أوكرانيا نحو مقاربة أكثر براغماتية، تعتمد على الاقتصاد كأداة ضغط، وتحمل أوروبا مسؤولية أكبر في إدارة النزاع. لكن رغم تفاؤله بإنهاء الحرب خلال أسابيع، فإن تعقيد المشهد العسكري والسياسي يجعل تحقيق هذا السيناريو أمراً بالغ الصعوبة دون تحولات كبرى في الميدان أو تنازلات غير متوقعة من أحد الأطراف الرئيسية.