بقلم: د. عدنان بوزان
في ظل التعقيدات السياسية والعسكرية التي تعيشها سوريا منذ أكثر من عقد، تتجه البلاد نحو سيناريوهات خطيرة، قد يكون أسوأها التقسيم الكامل، بينما يبدو أن أفضل الخيارات المتاحة – إن كان لا يزال بالإمكان الحديث عن حلول منطقية – هو تبني نموذج الدولة الفيدرالية. التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حول التدخل الإسرائيلي في جنوب سوريا لحماية الأقلية الدرزية، وما يترافق معها من منع تقدم الفصائل الموالية للحكومة السورية الجديدة نحو الجنوب، تكشف بوضوح عن توجهات جيوسياسية جديدة قد تعيد رسم خارطة سوريا المستقبلية.
وفي ظل هذه التحولات المتسارعة، لم يعد السؤال يدور حول بقاء الدولة السورية بصيغتها القديمة، بل عن شكلها الجديد بعد انهيار النظام البعثي وصعود حكومة ذات طابع إسلاموي جهادي، بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني). هذا التغيير الجذري في السلطة يفتح الباب أمام سيناريوهات غير مسبوقة، تتراوح بين تقسيم فعلي للبلاد، أو فرض نموذج فيدرالي يراعي توازن القوى الجديدة على الأرض.
1- جنوب سوريا: نحو حكم ذاتي بغطاء إقليمي؟
مع تصاعد التدخل الإسرائيلي في الجنوب السوري، تحت ذريعة حماية الأقلية الدرزية، تتزايد المؤشرات على أن هذه المنطقة تتجه نحو نوع من الحكم الذاتي، على غرار إقليم كوردستان العراق. التدخل الإسرائيلي لا يأتي فقط لدوافع إنسانية، بل هو جزء من استراتيجية إقليمية لمنع الفصائل الإسلامية الجديدة في دمشق من بسط سيطرتها على الجنوب، الأمر الذي قد يحول درعا والسويداء إلى إقليم شبه مستقل تحت حماية دولية، أو حتى بدعم مباشر من الأردن وإسرائيل.
في هذا السياق، يبدو أن القوى الدرزية المحلية بدأت بالتماهي مع هذا التوجه، خاصة مع تصاعد المخاوف من سياسات الحكومة الإسلاموية الجديدة في دمشق. هذه المخاوف قد تدفع المجتمع الدرزي إلى البحث عن تحالفات إقليمية لضمان بقائه في معادلة ما بعد النظام البعثي.
2- الساحل السوري: تفكك أم إعادة تموضع؟
على عكس ما قد يُعتقد، فإن انهيار النظام البعثي وصعود حكومة إسلاموية إلى السلطة في دمشق لن يؤدي بالضرورة إلى إعلان الساحل السوري كياناً مستقلاً، إذ قد تسعى الحكومة الجديدة إلى فرض سيطرتها على هذه المنطقة الاستراتيجية، سواء بالقوة أو من خلال تحالفات جديدة.
وفي حال فشلت السلطة الجهادية الجديدة في بسط نفوذها الكامل على الساحل، فمن المحتمل أن تنشأ قوى محلية تسعى إلى خلق كيان مستقل أو شبه مستقل، مدعوم من قوى إقليمية، مثل روسيا، التي لن تتخلى بسهولة عن قواعدها العسكرية في طرطوس واللاذقية. ومن المتوقع أن تشهد هذه المنطقة صراعاً بين القوى الجهادية الجديدة والقوى العلوية المحلية، التي ستجد نفسها أمام خيارين: المقاومة المسلحة أو التفاوض على نوع من الحكم الذاتي.
3- شرق الفرات: الفيدرالية الكوردية تترسخ
منذ اندلاع الثورة السورية، تمكن الكورد والعرب وقوميات الأخرى من بناء نموذج حكم ذاتي قوي في مناطقهم شرق الفرات. واليوم، مع سقوط النظام البعثي وصعود حكومة إسلاموية في دمشق، بات خيار الفيدرالية الكوردية أقرب إلى التحقق من أي وقت مضى.
التناقض الأيديولوجي بين الحكومة الجديدة في دمشق والإدارة الذاتية الكوردية سيؤدي إلى مزيد من تثبيت الحدود الفاصلة بين الطرفين، إذ لن يكون من السهل على السلطة الإسلاموية الجديدة فرض رؤيتها على منطقة ذات طابع قومي مختلف، وتتمتع بحماية أمريكية. من هنا، فإن مستقبل شرق الفرات يبدو أكثر وضوحاً بالمقارنة مع بقية المناطق السورية، حيث تتجه الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا نحو فيدرالية معلنة أو حتى دولة مستقلة بحكم الواقع.
4- دمشق وحلب: صراع النفوذ الجديد
مع سيطرة حكومة إسلاموية جديدة على دمشق، يبقى السؤال الأهم: كيف ستتعامل مع بقية المناطق السورية؟ هل ستسعى إلى فرض نموذجها على كامل البلاد، أم ستقبل بواقع الفيدرالية كحل سياسي؟
حلب، باعتبارها مركزاً اقتصادياً رئيسياً، ستكون ساحة تنافس بين القوى الجهادية الجديدة والقوى الإقليمية، خاصة تركيا، التي قد تدعم مجموعات محلية للحفاظ على نفوذها هناك. أما دمشق، فقد تبقى معزولة تحت حكم الإسلاميين، مع صعوبة فرض سيطرتهم على جميع أنحاء البلاد.
5- الفيدرالية: الحل الأقل تكلفة؟
مع تصاعد هذه الانقسامات، يبدو أن الخيار الوحيد لتجنب تفتيت سوريا إلى كيانات متناحرة هو تبني نظام فيدرالي، يمنح كل منطقة إدارة ذاتية ضمن إطار الدولة السورية. ورغم أن هذا الحل قد يكون مقبولاً لدى بعض الأطراف الدولية، إلا أنه يصطدم برؤية السلطة الإسلاموية الجديدة، التي قد ترفض أي نموذج لا يتماشى مع أيديولوجيتها.
الخاتمة: إلى أين تتجه سوريا؟
إذا لم يتم تبني حل سياسي سريع، فإن سوريا قد تنحدر إلى سيناريو أكثر فوضوية، حيث تتحول إلى ساحة صراعات متعددة بين الفصائل الإسلامية، والقوى المحلية، والداعمين الإقليميين والدوليين. وقد يصبح التقسيم الفعلي أمراً لا مفر منه، خاصة إذا استمر الصراع الأيديولوجي بين القوى الجديدة في دمشق وبقية المكونات السورية.
الواضح حتى الآن أن سوريا التي عرفناها قبل عام 2011 لم تعد موجودة، وما سيأتي بعدها سيكون أكثر تعقيداً، سواء عبر الفيدرالية، أو من خلال انزلاقها نحو تقسيم كامل لا رجعة فيه.