لنا رأي آخر: تحالفات سياسية هشة أم فرصة للسلام الحقيقي؟
بقلم: د. عدنان بوزان
من خانك مرة سيخونك ألف مرة، هذه قاعدة متجذرة في التاريخ السياسي والإنساني. الحذر من الأعداء ليس مجرد حكمة قديمة، بل هو ضرورة ملحة للبقاء والتطور. قد يظهر الخصم بمظهر الصديق في مرحلة ما، مدعياً أنه تغير أو أن المصالح المشتركة تستدعي التعاون. ولكن الحقيقة التي لا يجب أن تغيب عن الأذهان هي أن من كان عدواً لك يوماً، سيظل يحمل تلك النوايا الخفية. العلاقات السياسية المبنية على الثقة العمياء بمثل هؤلاء الخصوم لا تؤدي إلا إلى مزيد من الخيانة والخذلان. الثقة لا تُبنى بالكلمات ولا بالمواقف المؤقتة، بل بالتحولات الجذرية في النوايا والأفعال. لذلك، لا يمكن إعادة فتح أبواب الثقة أمام من غدر بك مرة، لأنه سيجد دائماً منفذاً جديداً للغدر.
في ظل التطورات السياسية المتسارعة في المنطقة، يُلاحظ أن قوى كانت تعتبر في مراحل سابقة أعداءً لدودين، تسعى الآن إلى الظهور بمظهر الحل والمصالحة. في زيارة مثيرة للجدل، يتوجه أحد الشخصيات القيادية في المنطقة إلى عاصمة دولة لطالما كانت في صراع مستمر مع مصالح شعبه. الدعوة تأتي من زعيم معروف بسياسته القومية المتشددة، الذي يبدو وكأنه يغير نهجه فجأة، داعياً إلى الحل السياسي وترك السلاح، وهو نفس السلاح الذي كان هدفاً لهجمات نظامه لعقود.
هذه التحولات السريعة لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال قراءة عميقة للتغيرات السياسية الداخلية والخارجية. القوى الحاكمة في الدولة التي تدعو للحوار الآن تجد نفسها في مأزق سياسي قبيل انتخابات مفصلية، حيث تسعى إلى كسب دعم قوى المعارضة من أجل تثبيت حكمها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هذه الدعوات نابعة من نية حقيقية لحل القضية المزمنة، أم أنها مجرد لعبة سياسية لكسب الوقت وإعادة ترتيب الأوراق على حساب آمال وطموحات شعب بأكمله؟
ما يزيد الأمر تعقيداً هو التقارب الظاهر بين الأطراف السياسية المتنازعة حول قضايا أخرى في المنطقة، مثل الحروب الدائرة في غزة ولبنان وفي قادم الأيام نحو سوريا. هذه القضايا توحد القوى التي كانت في السابق في صراع مستمر، ولكن هل يمكن أن تستمر هذه الوحدة إذا تغيرت المصالح؟
هذا هو السؤال الجوهري الذي يجب أن نطرحه: هل تلك المصالح المشتركة التي جمعت الأضداد اليوم ستصمد أمام تقلبات السياسة المتغيرة؟ العلاقات السياسية المبنية على التحالفات المؤقتة تكون عادة هشة وغير مستقرة، خاصة عندما تعتمد على اعتبارات تكتيكية بحتة، مثل الانتخابات أو التغييرات الدستورية. في الوقت الراهن، يبدو أن هناك توجهاً نحو إعادة صياغة التحالفات من أجل استباق الانتخابات المقبلة، حيث يتنافس الحزبان الحاكمان على كسب دعم قوى المعارضة بهدف تثبيت سلطتهما المتزعزعة.
ولكن هذه الاستراتيجية، وإن بدت ذكية على المدى القصير، إلا أنها تحمل في طياتها بذور التمزق والخيانة المستقبلية. الأحزاب التي تجد نفسها مرغمة على التحالفات السياسية المؤقتة ستعود بسرعة إلى مواقعها الأصلية عندما تتغير المصالح أو عندما تتحقق أهدافها. الشعب الذي عانى من الحروب والصراعات لعقود لن يغفر بسهولة لأي جهة تتلاعب بمصيره تحت ستار المصالح السياسية. هذه الدعوات إلى الحوار قد تبدو مغرية، ولكن يجب التذكير بأن كل اتفاق يوقع في ظل ضغوط خارجية أو مصلحة ضيقة، دون مراعاة مصالح الأطراف الحقيقية، سيكون مصيره الفشل عاجلاً أم آجلاً.
في هذا السياق، لا يمكن إغفال التاريخ الطويل من الانقسامات والخلافات التي عصفت بالمنطقة. هذا التاريخ لا يمحى بسهولة بتصريحات سياسية أو لقاءات شكلية. إذا كانت هناك نية حقيقية لحل النزاعات المزمنة، فإن ذلك يتطلب التزاماً صادقاً من جميع الأطراف بتحقيق السلام العادل والشامل. الحلول الجزئية أو الموقتة قد تهدئ الأوضاع لفترة وجيزة، لكنها لا تبني مستقبلاً مستقراً.
بالنظر إلى التقارب في المواقف حول الحروب الدائرة في المنطقة، قد نجد أن القوى الإقليمية تسعى لاستغلال هذه الأزمات لتعزيز مواقفها المحلية. ولكن يجب أن نكون حذرين من أن هذه التحالفات التي تبنى على أزمات خارجية قد تتلاشى بمجرد انتهاء تلك الأزمات أو تغيير أولويات القوى الكبرى في المنطقة.
وبالتالي، يجب أن نتساءل: هل هذه المبادرات الجديدة نحو الحلول السياسية نابعة من قناعة راسخة بضرورة تحقيق السلام، أم أنها مجرد محاولات للالتفاف حول الحقائق الصعبة والاستفادة من اللحظة الراهنة؟ الشعب الذي أرهقته الحروب والمعارك لا يستطيع تحمل المزيد من الخيانات السياسية أو الحسابات الضيقة التي لا تراعي مصالحه الحقيقية.
الفرصة قد تكون مواتية الآن لتحقيق اتفاق، لكن إن لم يكن هذا الاتفاق مبنياً على أسس متينة وشاملة، فإنه لن يدوم طويلاً. التحركات السريعة والتقارب الظاهري بين الأطراف لن يكون كافياً إذا لم يرافقه تغييرات جوهرية في السياسة والنوايا. على الشعب أن يكون واعياً ويقظاً، فلا يسلم إرادته لمن سبق وخان تطلعاته مرة بعد أخرى. السياسة الحقيقية تتطلب صدقاً والتزاماً، لا مجرد مناورات تكتيكية تهدف إلى كسب الوقت أو تحقيق مكاسب آنية.
في النهاية، يبقى الحل الحقيقي في يد الشعب، والقرار النهائي لا بد أن يعبر عن إرادته الحرة بعيداً عن الضغوط الخارجية أو الحسابات السياسية الضيقة.