لنا رأي آخر: عندما تفقد العائلة توازنها

بقلم: د. عدنان بوزان

عندما تفقد العائلة توازنها، لا يكون الأمر مجرد تصدع في جدار صغير، بل هو زلزال يهزّ أساساتها، يهوي بها من قمة التماسك إلى قاع الفوضى والضياع. تبدأ الحكاية دائماً بتلك الشكوك الخفية، الهمسات التي تتسلل بين الزوايا وتنمو مثل السرطان في أحشاء العلاقات. وفي قلب هذه الفوضى، نجد المثقف، الذي كان يُعتبر عموداً من أعمدة العائلة، أول من يطاله السقوط.

المثقف الذي كان يحلم بأن يرتقي بالعائلة نحو آفاق جديدة من الفهم والإدراك، يجد نفسه محاصراً بالأحكام المسبقة، وكأنه أصبح مجرماً بسبب أفكاره. كلما حاول أن ينير ظلمة الجهل بالكلمات، كان نوره ذاته يحرق جلود أفراد العائلة المتعبة من مواجهة الحقيقة. يصبح المثقف الشخص الذي تُلقى عليه كل الاتهامات. البداية تكون بخطوات بسيطة: "لقد تغيّر"، "لم يعد كما كان"، ثم تأتي الكلمات القاسية التي تُلقى على قلبه وكأنها تسقط من هاوية سحيقة: "إنه مجنون".

هنا، الجنون ليس فقداناً للعقل، بل هو العقوبة المجتمعية، عنوان يُلصق بمن رفض أن يسير مع القطيع، بمن رأى الحقيقة التي لا يريد الآخرون رؤيتها. تسقط الأقنعة، تلك الأقنعة التي ارتدوها طويلاً في مسرح حياتهم المزيف. يتحدثون عنه في غيابه، بألسنةٍ قاسيةٍ، محملين بكل ما يخفونه من حقد دفين. كل منهم يفرغ عليه جزءاً من خوفه، من ضعفه، ومن فشله في مواجهة ذاته.

تبدأ الروابط بين أفراد العائلة بالتفكك ببطء، كسقوط حبات الرمل من بين الأصابع. يتجنبون الحديث معه، بل يتجنبون الحديث عنه تماماً. وفي هذا الصمت الذي يغلف المكان، تتعاظم الكراهية وتتجذر الاتهامات. ينتشر الحديث في المحيط الاجتماعي مثل شائعة لا تعرف حدوداً، وكل من يسمع يضيف إليها شيئاً جديداً من عنده، حتى تصبح الإشاعة "حقيقة" متخيلة. فجأةً، يتحول المثقف إلى رمز للسقوط في عيون الناس، وتُنسج حوله حكايات لم تحدث، لكنه يُجبر على تحمل عبء تلك القصص التي لم يروها.

العائلة تبدأ بالانهيار. ليس لأن المثقف أخطأ، بل لأنهم، في مواجهة أفكاره، أدركوا هشاشتهم. كان المثقف مرآة تعكس زيفهم، وبدلاً من مواجهة الحقيقة، فضلوا كسر المرآة. كل فرد منهم يبحث عن مسافة بينه وبين "العار" الذي ألصقوه بالمثقف. ومع كل خطوة يبتعدون بها عنه، يغرقون أكثر في أوهامهم الخاصة. لكن هذا الوهم يصبح واقعهم، فيدمر ما تبقى من روابط بينهم. يتحولون إلى كتل من المشاعر المتضاربة، تائهة، عالقة بين ماضٍ كان يجمعهم وحاضر يفرقهم.

وهكذا، تصبح العائلة كجسدٍ متهالك، تتحرك أعضاؤه في اتجاهات متناقضة، كل فرد منهم مشغول بالحفاظ على قناعه الخاص، على صورته التي يريد أن يقدمها للآخرين. ومع مرور الوقت، تتسع الفجوة بينهم، وتتعمق الجراح حتى لم يعد بالإمكان التئامها.

هنا تبدأ الحكاية، حيث يتجلى التناقض المرير بين ما نُجلّه في الغرباء وما ندمّره في الأقرباء. في هذا المجتمع الممزق، نجد أنفسنا نتفاخر بإنجازات الغريب، نرفع شهاداته الأكاديمية كما لو كانت تاجاً من نور، نحتفي بثقافته، ونعظم مهنته كأنه رمزٌ للكمال الذي لم نتمكن من تحقيقه. نغدق عليه بالمديح والإشادة، نُهلل باسمه ونضفي عليه كل سمات العظمة التي نتمناها لأنفسنا.

ولكن عندما يكون القريب هو صاحب الإنجاز، الشخص الذي نشأ بيننا، تتغير المعايير فجأة. تتحول النظرات إلى نقد وازدراء، ونتجاهل شهاداته، نقلل من شأن ثقافته، ونُطفئ بريق عظمته، كما لو أن نجاحه يشكل تهديداً لنا، أو يُعرّي ما نفضل أن نخفيه من عيوبنا. نصبح أعداء خفيين له، نتستر وراء أقنعة الحسد والخوف من الفشل.

لماذا نحتفي بالغريب وندمر القريب؟ ربما لأننا نخشى أن يكشف القريب هشاشتنا، فهو مرآة تعكس لنا حقيقتنا التي لا نجرؤ على مواجهتها. أما الغريب، فبعيدٌ عن عالمنا الداخلي، نضعه على قاعدة التمجيد دون خوف من المقارنة المباشرة. نرفعه إلى القمم، نبرر لأنفسنا عدم قدرتنا على بلوغها.

وهكذا، نصبح مدمرين لأنفسنا، نقتل كل فرصة للتميز في داخلنا. نختار أن نصنع للغرباء تماثيل من المجد، بينما ندفن إنجازات القريب تحت ركام النقد اللاذع والحسد المستتر. في النهاية، لا نخسر القريب فقط، بل نخسر أنفسنا، نغرق في دوامة من التدمير الذاتي والتناقضات التي لا نهاية لها.

وفي نهاية المطاف، يغرق الجميع في ظلمة الحطام، يتساءلون كيف وصلوا إلى هذا المكان المظلم، دون أن يدركوا أنهم بأنفسهم صنعوا هذا المصير. لقد فضلوا الانغلاق على الجهل والكذب بدلاً من مواجهة الحقيقة التي حاول المثقف أن يفتح أعينهم عليها. الأسرة التي كانت يوماً ملاذاً آمناً، تتحول إلى ميدان معركة، حيث يقاتل كل فرد منهم أشباحه الخاصة، وكل كلمة تُنطَق تصبح طعنة في القلب.

أما المثقف؟ يبقى وحيداً، لكنه ليس المنهزم. إنه الناجي في معركة الوعي، الوحيد الذي تجرأ على مواجهة ما رفضه الجميع. هم خسروا أنفسهم، بينما هو، رغم جروحه، ظل متمسكاً بحقيقته، بحرية داخله التي لا يمكن لأي اتهام أو شائعة أن يسلبها منه.

X

تحذير

لا يمكن النسخ!