المشهد السوري إلى أين؟
بقلم: د. عدنان بوزان
سؤال يتردد في أذهان الكثيرين منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011 وحتى الآن. تطورات الأزمة جعلت من سوريا ساحة مفتوحة للتدخلات الإقليمية والدولية، وتحولت من نزاع داخلي إلى حرب متعددة الأطراف، حيث أصبحت القوى الكبرى تتنافس على تحقيق مصالحها الاستراتيجية، تاركة الشعب السوري يواجه واقعاً مأساوياً من الدمار والتهجير.
أولاً: من البدايات إلى التشابك الدولي:
بدأت الاحتجاجات في سوريا على خلفية مطالب شعبية تتعلق بالإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية، على غرار ما شهدته دول عربية أخرى فيما سُمّي بـ "الربيع العربي". غير أن رد فعل النظام العنيف حوّل هذه الاحتجاجات إلى نزاع مسلح، اتسعت رقعته تدريجياً ليصبح حرباً أهلية، اجتذبت إليها أطرافاً خارجية، حيث دخلت قوى إقليمية ودولية إلى الساحة لتعزيز نفوذها وتحصيل المكاسب.
إيران وروسيا وقفتا بقوة إلى جانب النظام السوري، إذ تسعى طهران للحفاظ على نفوذها الإقليمي وضمان خط إمداد مباشر لحزب الله في لبنان، بينما ترى موسكو في دعمها للنظام السوري فرصة لتعزيز وجودها العسكري في الشرق الأوسط والحفاظ على قاعدتها البحرية في طرطوس. في المقابل، دعمت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية المعارضة السورية، ولو بشكل غير مباشر، فيما تلعب تركيا دوراً معقداً، إذ تتداخل مصالحها الأمنية مع معادلة النزاع السوري، خاصة فيما يتعلق بالمسألة الكوردية.
ثانياً: الفوضى وانعكاساتها على الأرض:
اللاعبون المحليون والدوليون أسهموا في تكوين مشهد معقد، حيث تم تقسيم سوريا فعلياً إلى مناطق نفوذ. شرق الفرات يسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية بدعم من الولايات المتحدة، فيما تسيطر قوات النظام السوري على معظم المناطق الوسطى والغربية. أما الشمال الغربي فهو تحت سيطرة المعارضة المسلحة بدعم من تركيا. هذه التقسيمات عمّقت الانقسامات في النسيج الاجتماعي السوري وأدخلت البلاد في دوامة من الفوضى والانهيار.
في ظل هذه الفوضى، ظهرت تنظيمات إرهابية كـ "داعش" و"النصرة"، مستغلة غياب الاستقرار. رغم هزيمة "داعش" إلى حد كبير، إلا أن الفكر المتطرف لا يزال موجوداً، وما زالت بعض الخلايا النائمة تشكل تهديداً للأمن في المنطقة.
ثالثاً: الانعكاسات الإنسانية والاجتماعية
المشهد السوري الحالي لا يمكن أن يُفهم دون النظر إلى الكارثة الإنسانية التي خلفتها الحرب. فقد نزح الملايين من السوريين داخلياً وخارجياً، وأصبح اللاجئون السوريون قضية رئيسية في العديد من البلدان، لا سيما دول الجوار كتركيا ولبنان والأردن. بالإضافة إلى ذلك، تأثرت الأجيال الجديدة التي نشأت في ظل الحرب، حيث واجهت نقصاً في التعليم والخدمات الأساسية، ما ينذر بمستقبل قاتم لهذه الفئة التي تشكل عماد إعادة بناء البلاد.
الاقتصاد السوري هو الآخر يواجه انهياراً شبه تام، حيث دُمّرت البنية التحتية وتفككت المنظومة الاقتصادية، بالإضافة إلى العقوبات الدولية التي زادت من عزلة النظام وأرهقت المواطنين.
رابعاً: إلى أين يتجه المشهد السوري؟
إذا كان هناك شيء واضح في المشهد السوري، فهو أن الحل السياسي ما زال بعيد المنال. مسار جنيف، الذي أُطلق برعاية الأمم المتحدة، لم يحقق تقدماً ملموساً، وذلك بسبب تعنت الأطراف المتصارعة على الأرض، وغياب الإرادة الحقيقية للتوصل إلى حل تفاوضي شامل. هذا الجمود السياسي يعزز حالة "اللا حرب واللا سلم"، حيث تستمر العمليات العسكرية بين الحين والآخر، دون أن تلوح في الأفق نهاية للصراع.
من جهة أخرى، هناك محاولات تقوم بها روسيا وتركيا وإيران من خلال مسار أستانة للتوصل إلى حلول جزئية، إلا أن هذه المحاولات تصطدم بعقبات كبيرة، خاصة فيما يتعلق بمستقبل الكورد في سوريا، وموقف الولايات المتحدة من الدور الإيراني في المنطقة.
خامساً: السيناريوهات المحتملة:
المشهد السوري، إذن، مفتوح على عدة سيناريوهات.
السيناريو الأول هو استمرار الوضع الراهن، حيث تبقى البلاد مقسمة إلى مناطق نفوذ، مع غياب أي تقدم نحو حل سياسي شامل. في هذا السيناريو، يستمر النزاع على مستوى منخفض، فيما يبقى التوتر بين القوى الكبرى يشكل عامل ضغط دائم على الداخل السوري.
السيناريو الثاني يتمثل في نجاح المسار السياسي، ولكن هذا يتطلب تغييرات جذرية في مواقف الأطراف الفاعلة، خاصة فيما يتعلق بتوزيع السلطة وإعادة بناء سوريا. إلا أن هذا السيناريو يبدو ضعيف الاحتمال في الوقت الراهن نظراً للتعقيدات الجيوسياسية المحيطة.
السيناريو الثالث، وهو الأسوأ، يتعلق بانهيار كامل للنظام السياسي في سوريا وتحول البلاد إلى ساحة لصراعات داخلية أعمق، مع تفكك مؤسسات الدولة بشكل أكبر. هذا السيناريو قد يقود إلى ظهور قوى جديدة على الأرض، ربما تكون أكثر تطرفاً وعنفاً.
خاتمة: ما هو المخرج؟
الأزمة السورية واحدة من أكثر الأزمات تعقيداً في القرن الحالي، حيث تداخلت فيها المصالح الإقليمية والدولية بشكل غير مسبوق. الحل يكمن في توافق سياسي يضمن حقوق جميع الأطراف ويحفظ وحدة البلاد، ولكن هذا يتطلب إرادة دولية حقيقية تتجاوز المصالح الضيقة. سوريا بحاجة إلى إعادة بناء شاملة، ليس فقط على مستوى البنية التحتية، بل أيضاً على مستوى إعادة ترميم النسيج الاجتماعي وتحقيق العدالة الانتقالية.
الشعب السوري الذي عانى لسنوات طويلة يستحق فرصة جديدة لبناء دولة تحترم حقوق الإنسان وتضمن الأمن والاستقرار لكافة مكوناته. لكن حتى ذلك الحين، يبقى السؤال قائماً: إلى أين يتجه المشهد السوري؟