بقلم: د. عدنان بوزان
تشهد سوريا تطورات خطيرة، لا سيما في الساحل السوري، وفقاً لما تشير إليه بعض التقارير، مما يعكس تحولاً جديداً في المشهد السياسي والعسكري للبلاد. فبعد أكثر من عقد على اندلاع الصراع، لا تزال سوريا ساحة مفتوحة لتجاذبات إقليمية ودولية، حيث تتداخل مصالح الفاعلين المحليين والخارجيين، في مشهد يزيده تعقيداً غياب تسوية سياسية شاملة. ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وظهور ديناميكيات جديدة على الأرض، يصبح من الضروري تحليل مآلات هذا الوضع في سياق المعطيات السياسية والعسكرية والدولية، لفهم اتجاهات الصراع ومستقبل البلاد، وما إذا كانت سوريا تتجه نحو مزيد من التفكك، أم أن هناك فرصاً لإعادة رسم المشهد وفق توازنات جديدة.
1- مآلات الوضع السوري في ظل الصراع الجديد:
لا تزال سوريا ترزح تحت تداعيات الحرب التي اندلعت عام 2011، وها هي اليوم تدخل فصلاً جديداً من العنف، حيث يبدو أن موازين القوى قد انقلبت، مما أتاح بروز فاعلين جدد يفرضون سيطرتهم بأساليب قسرية. ومع انهيار النظام السابق أو تآكله، انزلقت البلاد إلى مرحلة جديدة من الصراعات الداخلية التي تتغذى على أيديولوجيات متطرفة وانقسامات طائفية، أكثر مما تستند إلى اعتبارات سياسية بحتة.
إذاً، المعطيات المتداولة، فإن ذلك يعني صعود تيارات إسلاموية جهادية كقوى حاكمة في دمشق، وهو تطور ينذر بعواقب وخيمة على مستقبل سوريا. فالسلطة الجديدة، كما يبدو، لا يقدم بديلاً أكثر انفتاحاً أو قبولاً للتعددية السياسية والاجتماعية مقارنةً بالنظام البعثي البائد، بل يتبنى سياسات انتقامية ضد خصومه، دون تمييز بين المدنيين والمقاتلين.
يبدو أن الوضع السوري اليوم يزداد تعقيداً في ظل إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية والدولية، مما يجعل مستقبل البلاد أكثر غموضاً. فمع تصاعد نفوذ الفصائل الإسلاموية الجهادية في المشهد السياسي، تتجه سوريا نحو مرحلة جديدة من الحكم القائم على الإقصاء والاستبداد تحت غطاء ديني، وهو ما يفاقم الانقسامات الداخلية ويهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي بدرجة أشد مما هو عليه اليوم.
في ظل هذه الظروف، تواصل القوى الدولية والإقليمية مراقبة المشهد بحذر، إذ إن أي تدخل مباشر قد يؤدي إلى توسيع رقعة الصراع بدلاً من احتوائه. وبينما تسعى بعض الدول للحفاظ على مصالحها عبر دعم وكلاء محليين، يشير الواقع إلى أن سوريا قد تتحول إلى ساحة صراع طويل الأمد، حيث يسعى كل طرف إلى فرض رؤيته بالقوة، دون أي أفق لحل سياسي شامل يعيد للبلاد استقرارها.
من ناحية أخرى، يضيف الانهيار الاقتصادي بعداً آخر للأزمة، إذ يعاني السوريون من مستويات غير مسبوقة من الفقر وانعدام الأمن الغذائي، مما يجعلهم أكثر عرضة للاستقطاب من قبل الجماعات المسلحة. وهذا يعني أن أي سلطة جديدة، مهما كانت توجهاتها، ستواجه تحديات هائلة في فرض الاستقرار، في ظل انهيار مؤسسات الدولة وانعدام الثقة بين مختلف المكونات المجتمعية.
بناءً على ذلك، يمكن القول إن مستقبل سوريا مرهون بمزيج من العوامل الداخلية والخارجية، حيث سيظل العنف مستمراً ما لم يتم التوصل إلى تفاهمات دولية حقيقية تضع حداً لهذا النزيف المستمر، وتفتح المجال أمام تسوية سياسية شاملة تعيد بناء الدولة على أسس أكثر استقراراً وشمولاً.
2- الموقف الدولي: ازدواجية المعايير أم تغير في المصالح؟:
يُبرز الموقف الدولي تجاه الأزمة السورية حالةً من التناقض الصارخ بين الشعارات المعلنة والممارسات الفعلية، حيث يتجلى ذلك في إعادة تأطير العلاقة مع شخصيات وفصائل كانت مصنفة سابقاً ضمن قوائم الإرهاب، مثل أبو محمد الجولاني، الذي بات يُنظر إليه اليوم كفاعل رئيسي في المشهد السوري، وربما حتى كشريك في مواجهة بقايا النظام السابق. هذا التحول لا يعد استثناءً في السياسة الدولية، بل يعكس نمطاً متكرراً يُبرَّر دائماً بضرورات الواقع السياسي والمصالح الاستراتيجية.
إن ازدواجية المعايير في التعامل مع الملف السوري ليست جديدة، فقد سبق أن دعمت قوى دولية وإقليمية فصائل مسلحة تحت ذريعة مواجهة تهديدات أكبر، رغم سجلها الحافل بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وما يحدث اليوم في الساحل السوري من تجاوزات بحق المدنيين العزل، من نساء وأطفال، على يد السلطة الجديدة ذات التوجهات المتطرفة، ليس سوى مثال آخر على كيفية تكيّف المواقف الدولية وفقاً لأولويات القوى الكبرى، بعيداً عن أي التزام حقيقي بالمبادئ الأخلاقية.
لكن هذا التحول يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل سوريا: هل أصبح الهدف الأول منع عودة النظام السابق بأي ثمن، بغض النظر عن هوية الجهة التي تتولى الحكم؟ وهل باتت المصالح الجيوسياسية تطغى بشكل كامل على القيم الإنسانية، بحيث لم يعد للمجتمع الدولي خطوط حمراء تُحدد المقبول من غير المقبول في تعاطيه مع القوى المسيطرة على الأرض؟ إن استمرار هذا النهج لن يؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار، حيث تتحول البلاد إلى ساحة مفتوحة لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية، دون أي اعتبار لمصير الشعب السوري الذي يدفع ثمن هذه الحسابات السياسية.
3- التداعيات على النسيج الاجتماعي السوري: خطر التفكك والتقسيم
يشكل استمرار عمليات الاستهداف الطائفي في سوريا، سواء ضد العلويين أو أي مكوّن آخر، خطراً وجودياً على مستقبل التعايش المشترك، ويهدد بتحويل الصراع السياسي إلى مواجهة طائفية مفتوحة، تكرّس منطق الانتقام المتبادل وتعزز مشاعر الإقصاء والكراهية بين مختلف المكونات. ومع غياب أي مشروع وطني جامع، تتعمق الانقسامات الاجتماعية، مما يمهّد الطريق لانهيار الهوية الوطنية لصالح الهويات الفرعية، في سيناريو يُعيد إنتاج نماذج من الحروب الأهلية التي شهدتها دول أخرى، حيث يصبح السلم الأهلي مستحيلاً دون تدخل خارجي لإعادة ضبط المشهد.
إن تزايد عمليات التهجير والنزوح القسري، خاصة في صفوف أبناء الطائفة العلوية، قد يؤدي إلى خلق مناطق نفوذ طائفية متجانسة، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات التقسيم الفعلي، سواء عبر فرض أمر واقع على الأرض أو من خلال اتفاقيات دولية قد تُشرعن لاحقاً هذا التوجه. ومما يزيد من خطورة هذا المشهد، أن تفكك النسيج الاجتماعي السوري يخدم مصالح قوى إقليمية ودولية، ترى في سوريا الضعيفة والمجزأة وسيلة لضمان نفوذها، والتحكم في مآلات الصراع بما يحقق أهدافها الجيوسياسية، دون اكتراث لمصير الشعب السوري أو استقراره.
في ظل هذه المعطيات، لا يمكن الحديث عن مستقبل مستقر لسوريا ما لم يتم تبني مقاربة سياسية تعيد الاعتبار للهوية الوطنية الجامعة، وتتصدى لمحاولات تحويل الصراع إلى حالة استنزاف داخلي طويلة الأمد. إن تجاهل هذه التداعيات قد يجعل من سوريا نموذجاً لدولة فاشلة، تتنازعها الميليشيات والولاءات العابرة للحدود، ما يضعف فرص إعادة البناء السياسي والاجتماعي لسنوات طويلة قادمة.
4- السيناريوهات المحتملة لمستقبل سوريا:
في ظل هذه التغيرات، هناك عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل سوريا:
• تعزيز سيطرة الفصائل الجهادية على دمشق وتمددها لمناطق أخرى، مما قد يدفع القوى الدولية إلى إعادة تقييم مواقفها تجاهها، لا سيما إذا باتت تشكل تهديداً إقليمياً أو دولياً.
• نشوء تحالفات جديدة بين القوى المتضررة من سيطرة الفصائل الإسلاموية المتشددة، مما قد يؤدي إلى مواجهة عسكرية جديدة داخل البلاد.
• تدخل عسكري دولي أو إقليمي، خاصة من قبل روسيا وإيران، لاستعادة مناطق نفوذها، مما قد يشعل حرباً جديدة على نطاق أوسع.
• استمرار الصراع في صورة حرب استنزاف، دون تحقيق أي طرف لانتصار حاسم، مما يبقي سوريا في حالة فوضى دائمة.
ختاماً: أين العدالة؟
إذا صحت التقارير التي تشير إلى استهداف المدنيين على أسس طائفية، فإن ما يحدث في سوريا يمثل جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس، ويستدعي إدانة شاملة من المجتمع الدولي، بغض النظر عن الجهة الفاعلة. فالمسؤولية الأخلاقية تقتضي الوقوف في وجه أي انتهاك لحقوق الإنسان، سواء كان من قِبل أطراف محلية أو قوى خارجية. إلا أنه في ظل التوازنات الدولية المعقدة، يبدو أن العدالة قد تحولت إلى مجرد ورقة تُستخدم لخدمة المصالح الجيوسياسية للأطراف المتدخلة، بينما يتم التلاعب بمصير الشعب السوري لأغراض استراتيجية بعيدة عن القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية.
وفي ظل هذا المشهد المظلم، يبقى السؤال الأهم: هل لا يزال هناك أمل في إعادة بناء سوريا كدولة موحدة، أم أن ما نشهده اليوم هو الفصل الأخير من تفككها النهائي؟ الواقع يثير القلق، فالتحديات التي تواجه سوريا عميقة ومعقدة، والمصالح الدولية تتداخل بشكل يعمق الانقسامات الداخلية. إلا أن الإجابة على هذا السؤال لا تتعلق فقط بإرادة السوريين، بل أيضاً بالمجتمع الدولي الذي يقع على عاتقه تقديم دعم حقيقي لتحقيق العدالة والسلام، بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة التي قد تقود إلى مزيد من التشظي.