جلجامش: بين الواقع والأسطورة - دراسة حول تاريخ وتأثير قصة جلجامش في الأدب والثقافة السومرية
بقلم: د. عدنان بوزان
ترتبط أسطورة جلجامش بشكل لا ينفصل بتاريخ الحضارة السومرية، حيث تمثل هذه الأسطورة الضاربة في عمق التاريخ جزءاً لا يتجزأ من تراث الإنسانية. جلجامش، الملك السومري الشهير، أصبح رمزاً للبحث عن الخلود والبطولة، معززاً بذلك مكانته كشخصية أسطورية تعبر الزمن والثقافات.
يأخذ هذا البحث رحلة استكشافية عبر الزمن لفهم قصة جلجامش وكيف نمت هذه الأسطورة لتترسخ في عقول الناس على مر العصور. سنقوم بتحليل النصوص القديمة والرقوق الصلصالية لفهم مفردات وتفاصيل الحكاية، بجانب النظر في التأثير الذي تركه جلجامش على الأدب والثقافة السومرية.
بينما يعتبر بعض الباحثين أن قصة جلجامش قد تمثل وقائع تاريخية حقيقية، يظل الجدل مستمراً حول درجة صحة هذه الافتراضات. سنسعى في هذا البحث إلى فحص الأدلة المتاحة والتحقق من مدى تواتر الروايات حول حياة جلجامش ومصيره.
إن جلجامش يمثل قضية معقدة وفريدة في عالم الأساطير، وهو محط تساؤلات فلسفية وتاريخية تستحق الدراسة. من خلال هذا البحث، نسعى لفهم لغز جلجامش، وإلقاء الضوء على مدى تأثيره في تشكيل الوعي الثقافي والأدبي للحضارة السومرية.
سنقوم بتفحص كيف نمت قصة جلجامش وتغيرت مع مرور الوقت، وكيف أثرت هذه الأسطورة على الفنون والأدب والعقائد السومرية. سنتناول أيضاً الاكتشافات الأثرية والتنقيبات التي قد تلقي الضوء على توجيهات تاريخية أو أثرية قد تؤكد أو تنفي جوانب من قصة جلجامش.
كما سنقوم بتسليط الضوء على التأثير الثقافي لجلجامش خارج الحضارة السومرية، حيث يمكن رؤية تداول هذه الأسطورة في مختلف الحضارات القديمة واللاحقة. كيف تشكلت صورة جلجامش في أذهان البشر عبر الحقب، وكيف تم تبنيها وتغنيت عنها في الأعمال الأدبية والفنية العالمية.
في النهاية، سنسعى لتقديم رؤية شاملة حول قصة جلجامش، لا يكون فيها الاهتمام فقط بجوانبها الأسطورية بل أيضاً بأبعادها التاريخية والثقافية التي أثرت في تشكيل حضارة العراق القديمة والعالم بأسره.
ملحمة جلجامش تظلّ واحدة من أهم الأعمال الأدبية العظيمة في التاريخ، حيث تمثل مزيجاً فريداً من الأسطورة والتاريخ، وتلعب دوراً حيوياً في فهم تطوّر الأدب والثقافة السومرية والأكدية. القصة تقدم نظرة عميقة في الفلسفة الإنسانية والتحديات التي يواجهها الإنسان في مواجهة الموت والبحث عن الخلود.
يبدأ السرد بمرحلة مبكرة من حياة جلجامش، ملك الوركاء، وصديقه إنكيدو البريء الذي يتعلم الحضارة والقيم الإنسانية من خلال رحلته مع جلجامش. تتطور الأحداث لتقدم لنا صورة للمعركة الأبدية بين الإنسان والموت، حيث يسعى جلجامش بجدية للعثور على سر الحياة الأبدية بعد موت صديقه إنكيدو.
تبرز شخصية جلجامش بقوة في رحلته الطويلة والمحفوفة بالمخاطر، حيث يكتشف أن الخلود ليس ممكناً للبشر. ينعكس هذا الاكتشاف في قراراته اللاحقة، حيث يعود إلى مملكته ليبني مدينة عظيمة ويقيم جداراً حاموا، محاولاً إحداث تأثير دائم يتجاوز حياته الشخصية.
يعتبر البحث عن الخلود وفهم الموت والحياة بعد الموت من محاور القصة، ويبرز كيف يمكن للإنسان ترك أثر دائم من خلال أعماله ومساهماته في بناء المجتمع. بالرغم من أن قصة جلجامش قد تكون أسطورية، إلا أنها تحمل في طياتها دروساً قيمة حول الحياة والبحث عن الهوية والتأثير البشري في عالم معقد.
تظهر الملحمة كمصدر إلهام للعديد من الفنانين والكتّاب عبر العصور، مما يبرهن على قوة وجاذبية هذه الرواية القديمة.
الملحمة تعكس أيضاً التأملات الفلسفية حول مفهوم الإله والعلاقة بين البشر وقوى الكون. تظهر الآلهة في الملحمة بشكل فعّال كعوامل مؤثرة في حياة البشر، وتعبّر عن قوانين الطبيعة والقدر التي يجب على الإنسان التقبل والتأقلم معها.
الشخصية الأساسية، جلجامش، تتطور من مرحلة الغرور والسعي الجشع للخلود إلى ملكٍ حكيم يفهم قيم الحياة والموت. يُظهر قراره ببناء مدينة عظيمة وتحسين حياة شعبه كيف يمكن للفهم العميق للإنسان لطبيعة الوجود أن يؤدي إلى إحداث تأثير إيجابي ودائم.
يعكس مشهد موت إنكيدو وبحث جلجامش عن الخلود قضية الموت والحاجة إلى فهم عميق للحياة والإنسانية. يكتشف جلجامش أن البشر محكومون بالموت، ومع ذلك، يمكنهم ترك إرث يتجاوز حياتهم الشخصية.
وتظل ملحمة جلجامش قصةً جوهريةً تعبر عن التساؤلات الأبدية حول الحياة والموت والهوية الإنسانية. تتحدى القصة المفاهيم التقليدية حول الخلود والسعي البشري لتحقيقه، وتبرز أهمية بناء مستقبل يستند إلى الحكمة والتأثير الإيجابي.
مَلحَمة جِلجامِش هي مَلحَمة شِعرية من آداب بِلاد الرافِدَين، تُعدّ أقدم الأعمال الأدبية العظيمة وثاني أقدم النُصُوص الدينية المُتبقية من تلك الفترة، بعد نصوص الأهرام الدينية. يبدأ التاريخ الأدبي لملحمة جلجامش بخمس قصائد باللغة السومرية عن بلجاميش (بالإنجليزية: Bilgamesh) (وهي الكلمة السومرية لجلجاميش)، ملك الوركاء،
يعود تاريخ القصائد إلى عصر سلالة أور الثالثة (حوالي 2100 ق. م.). استُخدمت هذه القصص المتفرقة فيما بعد كمصدر مرجعي لقصيدة ملحمية مجمّعة في اللغة الأكدية. تعرف أقدم نسخة متبقية من تلك الملحمة المجمّعة بالنسخة «البابلية القديمة»،
ويعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وسُمّيت بالكلمات في بداية القصيدة («تَجَأوُزُ جميع الملوك الآخرين») (بالإنجليزية: Shūtur eli sharrī). لم يتبقّ مِن تلك القصيدة سوى بضعة ألواح طينية. أما النسخة التالية والمعروفة بالنسخة البابلية المعيارية التي جمعها سين-لقي-ونيني فيعود تاريخها إلى ما بين القرنين الثالث عشر والعاشر قبل الميلاد وتحمل الاسم «هو الذي رأى العمق» (بالإنجليزية: «Sha naqba īmuru») ، أو بكلمات معاصرة: «هو الذي يرى الغيب»).
تمّ استرجاع ثلثيّ هذه النسخة ذات الألواح الطينية الإثني عشر تقريباً. اكتُشفت بعض النسخ الأفضل حالاً في أنقاض مكتبة آشور بانيبال الملكية من القرن السابع قبل الميلاد.
يدور القسم الأول من القصة عن جلجامش، ملك الوركاء، وإنكيدو، وهو رجل بري خلقته الآلهة لوضع حدّ لطُغيان جلجامش على شعب الوركاء. بعد أن يتعلم إنكيدو الحضارة عبر إقامته علاقة جنسية مع إحدى العاهرات، ينطلق إلى مملكة الوركاء، حيث يطلب تحدّي جلجامش لاختبار مقدار قوته. يفوز جلجامش في التحدي، ومع ذلك، يصبح الرجلان صديقين، وينطلقان معًا في رحلة تدوم لستة أيام إلى غابة الأرز السحرية،
حيث يخططان لقتل حارسها، خومبابا الرهيب، وقطْع شجرة الأرز المقدسة. تُرسل الإلهة عشتار الثور السماوي لعقاب جلجامش على رفضه تقرّباتها الجنسية منه. يقتل جلجامش وإنكيدو الثور السماوي، وعلى إثر ذلك تتخذ الآلهة قرارها بالحُكم على إنكيدو بالموت، وتقتلنه.
في الجزء الثاني من الملحمة، يدفع الأسى على موت إنكيدو بجلجامش إلى القيام برحلة طويلة محفوفة بالمخاطر لاكتشاف سرّ الحياة الأبدية. في نهاية المطاف يكتشف أن «الحياة التي تسعى في إِثرها لن تنالها أبدًا. لأن الآلهة عند خلقِها البشر، جعلت الموت من نصيبهم، واستأثرت بالخلود نصيباً لها وحدها».
على أيّ حال، فقد طارت شهرة جلجامش في الآفاق، وعمّرت طويلاً بعد موته، بسبب مشاريعه العمرانية العظيمة، ونقله لنصيحة أسدتها له سيدوري، وما أخبره إياه الرجل الخالد أوتنابيشتيم عن الطوفان العظيم؛ ولقيت قصة الملحمة اهتماماً متزايداً وتُرجمت إلى العديد من اللغات وتظهر في العديد من الأعمال الفنية الشهيرة.
تعتبر الملحمة عملاً تأسيسياً في تقليد الملاحم البطولية، حيث شكل جلجامش النموذج الأولي للأبطال اللاحقين مثل هرقل، وكانت الملحمة نفسها بمثابة تأثير لملاحم هوميروس.
أسطورة جلجامش:
جلجامش هو شخصية أسطورية تاريخية معروفة بشكل رئيسي من خلال الأدب السومري، وهي إحدى أشهر الشخصيات التي ظهرت في الأساطير السومرية. يُعتبر جلجامش ملك مدينة أوروك، وهي إحدى المدن القديمة في العراق.
قد يكون اسم "جلجامش" مأخوذاً من اللغة السومرية، ويرجح أنه كان حاكماً حقيقياً في وقت مبكر من التاريخ السومري، ربما في القرن الـ 27 قبل الميلاد. ومع ذلك، فإن الشخصية التي ظهرت في الأدب السومري قد تم تجسيدها بطريقة خيالية وتُعتبر قصصها أساطير وليست سيرة ذاتية دقيقة.
تتحدث الأساطير عن حياة جلجامش ومغامراته، وأشهر هذه الأساطير هي "رواية جلجامش الخرافي" التي تحكي قصة البحث عن الخلود والحكمة. في هذه القصة، يتحد جلجامش مع صديقه إنكيدو، الذي كان في الأصل رجل بريء تم تحويله إلى وحش بواسطة الآلهة. يخوضان معاً مغامرات ويواجهان التحديات في سعيهما للعثور على الخلود.
تظهر صفات جلجامش بأنه في ثلثيه إله وفي ثلثه بشر، وكان يُصوَّر بأنه قوي وشجاع، لكنه في نفس الوقت يواجه تحديات إنسانية ويجرب الفقدان والحزن. الرواية تسلط الضوء على قضايا مثل الحياة والموت، والبحث عن الخلود والحكمة.
بالنسبة للتاريخ الحقيقي لجلجامش، فإن الأدلة محدودة، والكثير من المعلومات تأتي من الأدب السومري والمصادر الأثرية. رغم ذلك، فإن شخصية جلجامش لا تزال حاضرة في التراث الثقافي والأدبي للمنطقة، وقصصه تظل مصدر إلهام للعديد من الفنون والأدب في مختلف أنحاء العالم.
إنكيدو هو شخصية أسطورية تظهر في الأدب السومري، وهو صديق ورفيق جلجامش، ملك مدينة أوروك. تميزت شخصية إنكيدو بتواصلها الوثيق مع الطبيعة والوحوش، مما جعلها تعيش بتناغم مع البيئة المحيطة بها.
في إحدى القصص السومرية، يأتي إنكيدو إلى مدينة أوروك ويواجه جلجامش بعد أن قضى سبع ليال من الغواية. تظهر غانية التي كانت تعيش مع إنكيدو خلال هذه الفترة وتعبر إلى المدينة لمواجهة جلجامش. يتقابل الاثنان، جلجامش وإنكيدو، في عراك شديد بسبب منع إنكيدو لجلجامش من تمضية الليلة الأولى مع إحدى عرائس جلجامش. وفي نهاية الليل، دون أن يكون هناك فائز واضح، يستلقيان على الأرض منهكين.
تظهر في هذه اللحظة التكافؤ في قوتهما، مما يجعلهما يدركان قيمة الصداقة. يصبحان صديقين، ويشعر جلجامش بمحدودية قوته وبضرورة عدم إساءة استخدام سلطته. بالتالي، تتغير ديناميكية الحكم في مدينة أوروك، حيث يصبح لدى الاثنين حقوق وسلطات متساوية على المدينة.
يتوجه الاثنان في رحلة ملحمية إلى جبال الأرز، حيث يواجهون حارس الغابة هومبابا ويقتلونه. يكون الهدف من هذه الرحلة الحصول على خشب الأرز الضروري لبناء سقوف القاعات الكبيرة في القصر الملكي وصنع القوارب. يكمن هذا الخشب خارج نطاق مدينة أوروك، وبالتالي، يظهر جلجامش وإنكيدو كقادة يسعيان لتوسيع مملكتهما وضمان استمرار رخاء مدينتهم.
يظهر جلجامش كشخصية مهمة في الحياة الدينية والثقافية لمدينة أوروك، حيث قرر إقامة معبد مهيب لإنانا عشتار، الآلهة التي يجلها أهل المدينة ويقدمون لها القرابين بهدف حماية المدينة وأهلها. يتم تكريم إنانا عشتار من خلال احتفالات سنوية، ومن بين هذه الاحتفالات يُقيم جلجامش مراسم خاصة في المعبد.
يشمل هذا الاحتفال الخصوبة، والذي يتضمن طقوساً خاصة ترتبط بالحياة والإنجاب. من بين هذه الطقوس، يقوم جلجامش بمضاجعة كاهنة عذراء كجزء من الاحتفالات. هذا الفعل يُعد تقديراً للقوة الإنجابية والخصوبة التي يمثلها جلجامش كملك.
في هذا السياق، تظهر إنانا عشتار وتحاول إغراء جلجامش وتقترح أن يكون زوجاً لها. ومع ذلك، يرفض جلجامش هذا الاقتراح بسبب تاريخ إنانا المظلم، حيث كانت تغري عشاقها وتقتلهم بعد ذلك. تختفي إنانا عشتار بغضب، وتتخذ من قرارها توجيه ضربة قوية ضد جلجامش.
في مفارقة مؤلمة، تقرر إنانا عشتار أن تصيب صديق جلجامش، إنكيدو، بحمى قاتلة انتقاماً من جلجامش الذي رفضها. يصاب جلجامش بحزن عميق على فقدان صديقه، وفي هذه اللحظة يدرك حتمية الموت وضعف البشر أمام القوى الخارقة.
تبرز هذه القصة تناقضات الحياة وضعف الإنسان أمام القوى الإلهية، وكيف يمكن أن تتسبب قرارات الآلهة في تغيير مسار الأحداث بشكل جذري.
جلجامش، الذي كان يعيش حياة مليئة بالقتال واللهو، يقرر التخلي عن هذه الاهتمامات وينصرف للبحث عن الخلود، رغبة في تحقيق الحياة الأبدية. يبدأ في رحلة طويلة ومنهكة، يسعى فيها للعثور على الشخص الوحيد الذي يمكن أن يساعده في هذا المسعى.
يصل جلجامش إلى طرف الأرض، حيث يشهد غروب الشمس خلف هضبة، ويلاحظ بقعة قاتمة في منتصف الهضبة. يكتشف أنها باب طريق الشمس، الذي يؤدي إلى عالم آخر خارج عالم البشر. تبدأ رحلته المثيرة في هذا العالم الغامض.
بعد معارك متعددة وتحديات صعبة، يصل جلجامش إلى شاطئ مياه الموت. يكتشف أن على جزيرة قريبة يعيش رجل حكيم يُدعى أوتنابشتيم، الذي نجا مع زوجته من الطوفان بفضل قارب بنواه. يقترب جلجامش من أوتنابشتيم ويطلب منه معرفة تفاصيل الطوفان وكيف يمكن الوصول إلى الخلود.
يجيب أوتنابشتيم بحكمة، قائلاً أن ما يسعى جلجامش إليه محال، ويتطلب ذلك التضحية بشيء ثمين. يقترح عليه البقاء يقظاً لسبع ليال متتالية. يقبل جلجامش هذا التحدي، ويبدأ في محاولة البقاء يقظاً طوال تلك الليالي.
بينما جلجامش يحاول بقوة أن يظل يقظاً لسبع ليال متتالية كجزء من اختباره للحصول على الخلود، يفشل في مواجهة النعاس الذي يهدد بالسيطرة عليه. ينخرط في نصف النوم، الذي يُعتبر نصف الموت، وهو حالما يستسلم للنعاس.
في محاولة لتهدئته وتقديم الراحة له، يخبره الحكيم عن نبتة الخلود. يقوم جلجامش بالذهاب في مهمة جديدة إلى عمق المحيط لجلب هذه النبتة الرمزية. يستلقي على الشاطئ، يتنفس راحة بعد تحديات المغامرة، ويغفو لبرهة. وفي هذه اللحظة تقترب أفعى من المكمن وتلتهم النبتة.
يكتشف جلجامش أن حلمه بالخلود قد انقضى، وأنه، على الرغم من شجاعته وإرادته القوية، لا يمكنه التغلب على حقيقة البشرية التي تتجلى في النعاس والموت. يدرك أنه، كبشر، يجب عليه أن يواجه حقائق الحياة بما في ذلك الموت والفقدان.
عندما يعود إلى مدينة أوروك، يحمل معه درساً عظيماً. يتعلم أن مسؤوليته كملك هي حماية شعبه وتحقيق احتياجاتهم. يعود ليكون راعياً لشعبه، وبهذا ينبش جلجامش في طموحه ويجد هدفاً جديداً. يعود ليعيش حياة بشرية مليئة بالتحديات والتعلم، مدركًا أن الخلود الحقيقي يكمن في ترك تأثير إيجابي ودائم في حياة الآخرين.
بعد أن أدرك جلجامش حقيقة البشرية وعدم قدرته على تحقيق الخلود الحقيقي، قرر توجيه اهتمامه نحو ترك تأثير إيجابي ودائم في عالمه. عندما عاد إلى مدينة أوروك، أدرك أن الخلود يتجلى فيما يتركه المرء من أعمال وإرث يمتد عبر الأجيال.
بدلاً من البحث عن الخلود لنفسه، أمر جلجامش بصنع مليون قرميدة لاستخدامها في بناء جدار حماية للمدينة. كان هذا الجدار بطول 11 كيلومتراً وارتفاع 9 أمتار، وكان يهدف إلى حماية سكان المدينة من التهديدات الخارجية. وليس هذا فحسب، بل أمر أيضاً ببناء مدينة عظيمة، مع بيوتها وساحاتها وساتينها.
يُعتبر هذا الجدار والمدينة العظيمة اللذان أمر بهما جلجامش من الآثار التي يمكن التعرف عليها حتى اليوم، بعد مرور خمسة آلاف سنة من إنشائها. يعكس هذا الإرث العظيم عزماً وإصراراً على بناء شيء دائم ومفيد للمجتمع. تاركاً وراءه ليس فقط جداراً حماية ومدينة، ولكن أيضاً رمزاً للعزم والقوة البشرية في مواجهة التحديات وبناء المستقبل.
المدينة التي بناها جلجامش، أوروك، تظل علامةً على القدرة البشرية على إنشاء تحف فنية تتحد مع البيئة وتكون جزءاً من التاريخ لآلاف السنين. بفضل بعثة ألمانية في عام 1936، تم التأكيد على تاريخ بناء المدينة، وأشارت الدراسات إلى أنه يعود إلى الفترة بين 2900 و 2600 قبل الميلاد.
عثرت البعثة على رقم يحمل اسم جلجامش في المنطقة نفسها، مما يرتبط بشكل مباشر بالأسطورة والتاريخ المحلي. يُظهر ذلك تأثيراً عميقاً لشخصية جلجامش وما قام به في بناء مدينته.
اليوم، تؤكد الدراسات الجيولوجية أن أرض أوروك كانت مليئة بالبساتين والسواقي وقنوات المياه المتصلة بنهر الفرات. هذا يعني أن المدينة كانت تتمتع بموقع استراتيجي فريد، وتسمى بـ "بندقية الصحراء" بسبب غناها بالمياه والخضرة. يُظهر هذا الاستمرار في الازدهار البيئي الذي تقدمه المدينة على مر العصور، مما يبرز دورها الهام في تاريخ المنطقة.
الأسطورة الملحمية لجلجامش تأتينا محملة بالغموض والحيرة، حيث تتناول الرقوق الصلصالية والنصوص القديمة قصة موت جلجامش ودفنه. يُروى أن جلجامش قد قرر مواجهة مصيره بعد رحلته الطويلة والمثيرة، وكان من بين ذلك قراره بدفن نفسه مع خدمه في قبر في نهر الفرات. هذا الرقم الجديد يعكس تفاصيل مثيرة حول موته ودفنه، والذي تحول إلى حدث محوري في حياته.
ومع ذلك، يظل هناك جدل حول محتوى هذا الرقم ودقة تفاصيله. رغم وجود مقابر تظهر أن ملوكًا دفنوا مع خدمهم، فإنه لا يوجد دليل قاطع يؤكد الجوانب التفصيلية لموت جلجامش ودفنه. يظل الأمر محل شك وتساؤل حول ما إذا كانت هذه الرواية تعبر عن حقيقة تاريخية أم أنها جزء من الأساطير والخيال.
في النهاية، تظل أسطورة جلجامش رائعة المضمون والتي تحمل قيماً ودروساً عميقة. تقدم الأسطورة فحوى هامة حول التحديات والسعي للخلود، وتترك للقارئ حرية التفسير والتأمل حيال مدى صحة وجود جلجامش وقصته في واقع التاريخ.
في ختام هذا البحث، يظهر أن أسطورة جلجامش تظل رمزاً للإرث الثقافي والأدبي القديم، حيث يتناول الرقوق الصلصالية والنصوص القديمة قصة هذا البطل الأسطوري. بالرغم من وجود رقم جديد يتحدث عن موته ودفنه، إلا أن الجدل حول مدى دقة هذا الرقم يظل قائماً، وهو ما يفتح الباب لتفسيرات متعددة حول حقيقة تاريخ جلجامش.
على الرغم من عدم وجود دليل قاطع يثبت أو ينفي تفاصيل وفاة جلجامش، إلا أن الأسطورة لا تزال تحمل قيماً وعبراً جوهرية. إذ تعكس رغبة الإنسان في مواجهة التحديات والسعي لتحقيق الخلود، سواء كان ذلك من خلال الأعمال البطولية أو بناء تأثير إيجابي يترك بصمة دائمة في التاريخ.
بهذا يظل جلجامش شخصية تاريخية وأسطورية تمثل جزءاً من التراث البشري، ومهما كانت حقيقتها الفعلية، فإنها تظل مصدر إلهام للعديد من الأجيال. وبالنظر إلى جمالية وغموض الأسطورة، يبقى السؤال حول وجود جلجامش حقيقياً أو مجرد خيال جزءاً من جمال الحكايات القديمة التي تترك لنا تراثاً ثرياً يستحق الاستكشاف والتأمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
• "The Epic of Gilgamesh" by Andrew George • "Gilgamesh: A New Rendering in English Verse" by David Ferry • "Gilgamesh: A Verse Narrative" by Herbert Mason • "Gilgamesh among Us: Modern Encounters with the Ancient Epic" by Theodore Ziolkowski • "The Literature of Ancient Sumer" by Jeremy Black, Graham Cunningham, Eleanor Robson, and Gabor Zolyomi • Brandão 2020، صفحة 23 • Lins Brandão 2019، صفحة 21 Krstovic، Jelena O.، المحرر (2005). Epic of Gilgamesh Classical and Medieval Literature Criticism. Detroit, MI: Gale. ج. 74. ISBN:9780787680213. OCLC:644697404. Thrower، James (1980). The Alternative Tradition: A Study of Unbelief in the Ancient World. The Hague, The Netherlands: Mouton Publishers. Frankfort، Henri (1974) [1949]. "Chapter VII: Mesopotamia: The Good Life". Before Philosophy: The Intellectual Adventure of Ancient Man, an essay on speculative thought in the ancient near East. Penguin. ص. 226. OCLC:225040700. Temple، Robert (1991). He who saw everything: a verse translation of the Epic of Gilgamesh. Random Century Group