رحلة إلى عمق الوجود: من أوهام المعرفة إلى حكمة الحياة
بقلم: د. عدنان بوزان
في رحلتي نحو النضج الفكري والروحي، بدأت الحياة تتكشف لي وكأنها مرآة تعكس أوهاماً طالما سيطرت على كياني. كنت أعتقد أن قيمة الإنسان تكمن في ما يجمعه من شهادات أكاديمية، أو ما يكتنزه من معرفة. ظننت أن رفعة المرء تقاس بعدد الكتب التي قرأها أو الشهادات التي علقت على جدرانه. كنت أرى في المعرفة أرقاماً تُحصى وتُفخر بها، بينما كنت غافلاً عن حقيقة أعمق بكثير، حقيقة لم أدركها إلا مع مرور الزمن وازدياد تعمقي في جوهر الوجود.
كانت تلك السنوات من حياتي أشبه بسباق مستمر، حيث سعيت لجمع أكبر قدر من المعرفة كمن يجمع الكنوز. لكنني كنت أكتشف مع كل خطوة جديدة أن المسافة التي تفصلني عن الفهم الحقيقي كانت تتسع. كان هنالك شعور غامض، لم أستطع تعريفه حينها، لكنه كان ينمو في داخلي مع كل كتاب أقراؤه ومع كل معلومة أكتسبها، وكأنه كان يحاول إيقاظي من سبات طويل. شعرت أن هناك شيئاً أعمق يفلت من قبضتي، رغم كل تلك الجهود. كانت المعلومات مجرد سطح هشّ يغطي بحراً من الغموض الذي لم أكن أجرؤ على الغوص فيه.
ومع مرور الوقت، وفي لحظة من التأمل الصامت، بدأت تتكشف لي حقيقة جديدة. أدركت أن المعرفة التي كنت ألهث وراءها ليست الهدف النهائي، بل مجرد وسيلة. وأن الإنسان لا يُقاس بما يحمله من معلومات، بل بقدرته على فهم نفسه والآخرين، وعلى إدراك الجمال الكامن في تفاصيل الحياة الصغيرة، وعلى التفاعل مع هذا الوجود بكل ما فيه من تناقضات. بدأت أفهم أن المعرفة الحقيقية ليست تلك التي تملأ العقل، بل تلك التي تلامس الروح وتجعلني أعيش التجربة الإنسانية بكل عمقها.
كان التحول عميقاً في داخلي. أدركت أن جوهر الإنسان لا يكمن في قدرته على جمع المعلومات، بل في قدرته على التواصل مع ذاته ومع الآخرين. عرفت حينها أن الإنسان هو ذاك الكائن الذي يستطيع أن يرى في العالم، بأفراحه وآلامه، جمالاً لا تُدركه العين بل القلب. فالإنسان الذي يحمل في داخله إدراكاً جمالياً للوجود أعمق بكثير من مجرد عقل يختزن المعلومات.
في تلك اللحظة، شعرت أنني بدأت أتحرر من قيود الأفكار السطحية التي كنت أسيرها. بدأت أفهم أن العظمة الحقيقية تكمن في بساطة الوجود، في قدرة الإنسان على أن يكون جزءاً من هذا الكون دون محاولة تغييره أو السيطرة عليه. أدركت أن احترام الآخرين لا ينبع من لياقة أو واجب اجتماعي، بل من فهم عميق لوحدة الإنسان مع العالم. أصبحت أرى في كل إنسان مرآة تعكس جزءاً مني، وكل لقاء أو محادثة فرصة جديدة للتعلم والفهم. لم يعد الآخر غريباً أو بعيداً، بل صار جزءاً من نسيج الحياة الذي نشاركه جميعاً.
ومع هذا الإدراك، بدأت أرى في كل لحظة جمالاً جديداً لم أكن ألاحظه من قبل. لم تعد الكتب المصدر الوحيد للحكمة، بل أصبحت الحياة نفسها الكتاب الأكبر. فهمت أن الحكمة ليست محصورة في الصفحات، بل هي موجودة في الهواء الذي نتنفسه، في نور الفجر الذي يضيء الكون، في دمعة تسيل من عين طفل، أو في ابتسامة هاربة من قلب مُتعب. الحكمة هي القدرة على عيش اللحظة بكل تفاصيلها، وعلى أن نشعر، ونحب، ونتعاطف مع العالم بما فيه من تناقضات وجمال خفي.
وهكذا، تعلمت أن أكون إنساناً قبل أن أكون متعلماً أو مثقفاً. بدأت أرى في أبسط اللحظات فرصاً للفهم العميق، وصارت كل تجربة، مهما كانت بسيطة، تجربة وجودية تستحق التأمل والتقدير. العالم لم يعد بالنسبة لي مجرد مكان نعيش فيه، بل صار مسرحاً للحياة والوجود، مسرحاً نتشارك فيه مع الجميع قصة لا تنتهي، قصة يُكتب فيها كل يوم فصل جديد، يحمل معه معنى جديداً للفهم والإنسانية.