خمسون عاماً من الجهل: اكتشاف الجحشنة في عمق المجتمع

بقلم: د. عدنان بوزان

بعد خمسين عاماً من العمر، خمسين عاماً من السير في دروب الحياة بتفاصيلها وتعقيداتها، وجدت نفسي أمام حقيقة مريرة وثقيلة؛ حقيقة أنني جاهل، نعم، جاهلٌ بكل ما تعنيه الكلمة في عمقها. طوال تلك العقود التي قضيتها في ملاحقة الزمن، كنت أظن أنني أفهم المجتمع، وأنني أستطيع قراءة عقول الناس ومعرفة دوافعهم. كنت أتوهم أنني أمتلك الحكمة التي يتحدث عنها الحكماء في قصصهم القديمة، وأنني أملك القدرة على تفسير سلوك البشر وتوجيهاتهم.

لكن الحقيقة، تلك التي كانت ترتدي قناع الصمت طيلة هذه السنوات، كانت تنتظرني عند منعطف من الزمن، لتُظهر لي أنني كنت على خطأ.

الجهل الذي اكتشفته بعد خمسين عاماً لم يكن جهلاً بسيطاً متعلقاً بالأشياء الصغيرة أو بالعلم أو الثقافة، بل كان جهلاً عميقاً بجوهر ما يجري حولي؛ جهلاً بالمجتمع الذي أعيش فيه، جهلاً بما يُحرّك هذا العالم في دواخله الخفية. أدركت أنني لم أفهم "الجحشنة" التي تحكم سلوك الناس، تلك القوة الغامضة التي تُعيد البشر إلى طبيعتهم الحيوانية في لحظات معينة، والتي كانت تتجلى في تصرفاتهم بشكل غير مرئي.

لطالما اعتقدت أن البشر يتصرفون بناءً على دوافع إنسانية نبيلة أو عقلانية، وأن الحوار بينهم قائم على أسس منطقية. لكنني أدركت متأخراً أن ثمة قوى أعمق تدفعهم إلى الانقياد خلف غرائزهم البدائية. "الجحشنة" ليست سوى تلك النزعة الخفية التي تجعل البشر يتصرفون كقطيع، يتبعون بعضهم بعضاً دون تفكير أو تساؤل. إنها تلك العودة الغريزية إلى التصرفات البهيمية التي تُخفي وراءها قشرة رقيقة من التحضر والمدنية.

في هذا المجتمع، حيث يتظاهر الناس بالتحضر والتفكير الواعي، هناك انقياد أعمى وراء رغبات أنانية وأهداف مؤقتة. الجحشنة هي أن ترى المجتمع يسير دون تفكير عميق، وكأن الجميع يسيرون في دوامة من الزيف والتصنع، بينما تغيب عنهم الحقائق الجوهرية.

تساءلت كثيراً: كيف يمكن أن يستمر البشر في هذا الانقياد الجماعي؟ كيف يظنون أنهم أحرار وهم محاصرون في قفص غير مرئي؟ أليس العقل البشري أداة للفهم والتمرد على الغرائز؟ لكن الحقيقة التي أدركتها أن البشر غالباً ما يختارون الجهل. يهربون من العقل لأن التفكير يُثقل كاهلهم، ويختارون الطريق الأسهل؛ طريق اللاوعي والانقياد وراء ما تمليه عليهم غرائزهم الأولى.

الناس يفضلون التصرف كجزء من قطيع لا يسأل، لا يتفكر، لا يتحدى. إنهم يستسلمون لقوى اجتماعية وسياسية تُشكّل عقولهم دون أن يدركوا ذلك. وقد يكون هذا هو السر في استمرار الجهل الجمعي، لأن العقول البشرية لا ترغب في التعقيد أو مواجهة الواقع.

إدراكي المتأخر لهذا الأمر جعلني أعيد التفكير في طبيعة الإنسان. هل نحن بالفعل كائنات عاقلة تقودها المعرفة، أم أن الغرائز والعواطف هي التي تسير بنا دون أن نعلم؟ البشر يتصرفون بطرق غامضة وغير مفهومة، وما كنت أعتقد أنه عقلانية لم يكن سوى غطاء رقيق لغرائز بدائية.

في نهاية المطاف، تبدو الحياة سلسلة متشابكة من الأسئلة التي لا تنتهي، وكلما اعتقدت أنك تقترب من فهمها، كلما أدركت مدى جهلنا كبشر. الحقيقة قد تكون دائماً بعيدة عن متناولنا، ملفوفة في طبقات من الزيف والخداع. ما نحن إلا ظلال لما هو أعمق وأعقد. في عالم البشر، يبقى فهم المجتمع وتفكير الناس أمراً مليئاً بالغموض والعتمة، ولن نصل إلى حقيقة هذه الطبيعة البشرية إلا إذا قررنا أن ننزع عن أنفسنا أقنعة الجحشنة ونسير في دروب الحقيقة.

X

تحذير

لا يمكن النسخ!