بين الزيف والجوهر: الإنسان الجاهل والمثقف في مواجهة المعرفة
بقلم: د. عدنان بوزان
في عالم تسوده الفوضى والضجيج، حيث تتداخل الأفكار والمعلومات، يبرز الإنسان الجاهل والمثقف كصنفين مختلفين. لا تعود هذه الاختلافات إلى مستوى المعرفة أو الشهادات الأكاديمية فحسب، بل تتجاوز ذلك لتغوص في أعماق النفس البشرية وتطلعاتها. إن الجاهل، في سعيه المستمر للحصول على الاعتراف الاجتماعي، ينظر إلى الشهادات الأكاديمية كعلامات فارقة تشير إلى مكانته في المجتمع، ويعمد إلى التفاخر بأي خطوة يخطوها في هذا المجال، مهما كانت ضحلة أو فارغة من المحتوى.
في المقابل، يسعى المثقف إلى فهم عميق وشامل لما درسه، فهو ينظر إلى الشهادة كأداة تمكنه من الاستزادة من المعرفة والفهم، بدلاً من أن تكون غلافاً هشاً يزين حائطاً أو سيرة ذاتية.
يمكن تشبيه الإنسان الجاهل بشخص يتسلق جبلاً، ولكنه بدلاً من الوصول إلى القمة، يكتفي بالجلوس على قمة صخرة صغيرة في منتصف الطريق. في كل مرة يحقق فيها إنجازاً بسيطاً، يكون فخره مبنياً على أسس هشة، كمن يتفاخر بامتلاكه لسجل أكاديمي مشرق دون أن يغوص في تفاصيل المحتوى. هذا الفخر الزائف ينبع من الرغبة في الظهور بمظهر النجاح، لكن دون إدراك حقيقي لما يتطلبه هذا النجاح. إن الشهادة الأكاديمية تصبح كغلاف هزيل يغطي فراغاً واسعاً من الجهل والتفاهة، حيث ينسى الجاهل أن التعليم الحقيقي يتجاوز جدران الفصول الدراسية ويعيش في التجارب والتفاعل مع الأفكار.
على النقيض، نجد المثقف الذي يدرك أن السعي للمعرفة ليس مجرد رحلة نحو الحصول على شهادة. إنه يسعى جاهداً لاستكشاف المعاني العميقة لما يتعلمه، وهو يُقدّر المضمون أكثر من الشكل. المثقف يعتبر أن المعرفة ليست مجرد مجموعة من الحقائق المجردة، بل هي أداة لفهم العالم وتشكيل رؤى جديدة. الشهادة بالنسبة له ليست غلافاً، بل هي مفتاح لبوابات متعددة من الأفكار التي يسعى للغوص فيها. إن المثقف يتعامل مع المعرفة ككتاب قيّم، يحتوي على دروس وتجارب ونظريات تستحق التقدير والتمعن.
عندما نتأمل في الهوية الإنسانية، نرى أن الجهل ليس مجرد نقص في المعلومات، بل هو حالة من الانفصال عن الجوهر. الإنسان الجاهل يُعتبر سجيناً للمعرفة السطحية، حيث ينشغل بالتفاصيل الثانوية على حساب الفهم العميق. بالمقابل، المثقف يُدرك أهمية الهوية كفرد من خلال المعرفة، ويعمل على بناء رؤية شاملة تحترم التجارب الثقافية والفكرية المتنوعة. هو يُدرك أن كل نص علمي أو أكاديمي هو جزء من حوار أكبر مع التاريخ والمجتمع، وهو يسعى من خلال استيعابه لهذه النصوص إلى تطوير ذاته ومجتمعه.
إن المثقف هو من يؤمن بأن المعرفة هي وسيلة للتغيير، وهو لا يكتفي بتلقي المعلومات، بل يسعى إلى نقدها وتحليلها، ليقدم إضافات نوعية تُثري النقاشات الفكرية. المثقف يسعى إلى تطبيق ما تعلمه على أرض الواقع، وهو لا يتردد في مواجهة التحديات الاجتماعية والثقافية. في حين أن الجاهل قد يكتفي بقبول المعلومات كما هي، يتبنى المثقف مبدأ التساؤل والبحث الدائم عن الحقيقة. هذا العمق الفكري هو الذي يميز المثقف عن الجاهل، ويمنحه القدرة على المساهمة في بناء مجتمع أكثر وعياً وثقافة.
في النهاية، يمكننا القول إن الفخر الزائف للإنسان الجاهل يتمثل في إظهار الإنجازات السطحية دون الفهم الحقيقي لما وراءها، بينما يسعى المثقف إلى الغوص في المعاني والتجارب، مفضلاً المضمون على الشكل. إن السعي نحو المعرفة الحقيقية يتطلب شجاعة وإرادة، وهو طريق لا يكتمل إلا من خلال الحوار والتفاعل مع العالم من حولنا. لذا، على الإنسان أن يتجاوز حدود الشهادة كغلاف، ويبحث في جوهر المعرفة كسبيل لتطوير الذات والمساهمة في بناء مجتمع يعكس عمق الفكر ورحابة الثقافة.