ولادة تحت المشنقة: قصة وليد ورضية
بقلم: د. عدنان بوزان
في قلب ليلة عاصفة، حيث تصفر الرياح عبر شقوق الأبواب الخشبية وتلعب بأوراق الأشجار كأنها ألحان حزينة، وُلِد وليد تحت ظلال المشنقة. كانت السماء ملبدة بالغيوم الثقيلة، والبرق يقسم الظلام إلى شطرين بضوئه الخاطف، معلناً عن قدوم روح جديدة إلى هذا العالم. رضية، وهي عاملة النظافة في إحدى السجون لدى النظام البعثي في العراق، ثم بقدرة قادر تحولت إلى والدة وليد، تمسكت بيد معينها الوحيد، مرددة دعوات صامتة تخترق ضجيج العاصفة، متمنية لابنها حياة تتجاوز ظلمات لحظة ولادته.
كانت المشنقة تقف شامخة بجوار كوخها الصغير، تلك الشاهدة الصامتة على العدالة والظلم على حد سواء، مغروسة في الأرض كما لو كانت جزءاً لا يتجزأ من قدر الأسرة. ومع ذلك، في تلك الليلة، بدت المشنقة كأنها حامية لهذه الحياة الجديدة التي تشق طريقها بين صفحات القدر.
وليد، الطفل الذي خرج إلى الحياة بينما كانت العواصف تعزف سيمفونية الحياة والموت، كان لحظة ولادته إعلانا عن بداية عهد جديد. عهد يحمل في طياته الأمل والصمود في وجه كل ما هو قاتم ومخيف. وبينما كانت رضية تحتضن طفلها الجديد، شعرت بروابط الحب تتشكل بين قلبيهما، روابط قوية كفيلة بتحدي كل العواصف.
لم تكن ولادة وليد تحت المشنقة نهاية قصة، بل كانت بداية رحلة مليئة بالتحديات والمغامرات، حيث يتعلم وليد ورضية معاً كيفية العيش في ظلال الماضي ولكن بأعين متجهة نحو الأمل والمستقبل. في كل خطوة يخطوها وليد، كانت الأرض تهمس بقصص الأجداد، والسماء ترسل بركاتها، والمشنقة... تقف شاهدة على قوة الحياة التي تنبت في أقسى الظروف.
في زمنٍ غلّفته ظلال الصراع والحزن، حيث كانت الأرض تحتضن أسرارها بين ثنايا الألم والأمل، تُروى قصة لم تكن كأي قصة. في إحدى زوايا العالم، حيث كان الهواء مشبعاً بأنفاس القلق ورائحة الترقب، وُلدت حكاية "وليد" و"رضية"، حكاية تفوق في تفاصيلها حدود الخيال، وتلامس بعمقها أوتار الروح.
كانت السماء تبكي ذلك اليوم، تنثر دموعها على أرضٍ اعتادت على زفير الأحزان. وفي لحظةٍ قدرية، تحت ظل المشنقة التي شهدت نهاياتٍ كثيرة، كانت هناك بداية، بداية "وليد". فمن بين آهات الوداع وأصداء الحكم القاسي، اخترق صوت بكاء طفل جديد الصمت المؤلم، ليعلن عن ولادة حياة جديدة في أقسى الظروف.
"رضية"، التي كانت عاملة التنظيف في ذلك المكان الذي لطالما كان شاهداً على الألم، وجدت نفسها فجأة أمام روح صغيرة معلقة بين أنفاس الحياة وظلمة الموت. كان قلبها، الذي عانى من عقم السنين، ينبض الآن بحب لم تعرف له مثيل. "وليد"، الطفل الذي جاء إلى العالم في لحظة يأس، أصبح رمزاً للأمل، للحياة التي تتفتح وسط الخراب.
لم تكن قصة "وليد" و"رضية" مجرد رواية عن النجاة والحب، بل كانت شهادة على قوة الإنسانية في وجه القسوة، على النور الذي يمكن أن يشق طريقه حتى في أعمق ظلمات اليأس. ومع كل خطوة يخطوها "وليد" في هذه الحياة، كانت قصته تتعمق وتتسع، تُظهر كيف يمكن للعدالة والحب أن ينتصرا في النهاية، كيف يمكن للحياة أن تولد من رحم الموت.
ولادة تحت المشنقة: قصة وليد ورضية"، لتبقى ذكرى عن قوة الأمل والإنسانية، عن الحياة التي تستمر بالرغم من كل العوائق، عن قلبين وجدا في بعضهما العزاء والسند، في عالمٍ كان بحاجة ماسة إلى تذكير بأن الضوء، مهما كان خافتاً، لا يزال قادراً على إضاءة الطريق في أحلك الليالي. كانت "رضية"، بقلبها الذي اتسع لحب طفل لم تلده، و"وليد"، بإرادته للحياة التي تفوق كل التوقعات، يعيدان تعريف معاني العائلة، القوة، والمرونة.
في كل زاوية من زوايا حياتهما، في كل نظرة تبادلاها، وفي كل كلمة قيلت، قصة عن الخسارة والعثور، عن الألم والتجاوز. لقد كانت رحلتهما معاً تذكيراً بأن في أعماق الإنسان قدرة لا محدودة على العطاء والتحمل، وأن الحب يمكن أن يشكل جسوراً تعبر بها الروح فوق أنهار اليأس.
"وليد"، الذي نما ليصبح رجلاً يعي الفضل والمحبة التي أغدقتها عليه "رضية"، لم ينسَ يوماً تلك اللحظات التي شكلت منه الإنسان الذي أصبح عليه. لقد كانت حياته شهادة حية على أن النهايات يمكن أن تكون بدايات جديدة، وأن الماضي، مهما كان مؤلماً، يمكن أن يكون الأساس الذي تبنى عليه مستقبلاً أفضل.
وبينما تمضي الأيام، وتتوالى السنون، يبقى صدى قصة "وليد" و"رضية" يتردد في الأرواح، قصة تحمل في طياتها الأمل، الإلهام، والنور. قصة تُظهر أن في كل واحد منا القدرة على أن يكون مصدر ضوء في الظلام، وأن الحياة، بكل تقلباتها وألوانها، هي الهدية الأثمن التي يجب أن نحتفي بها كل يوم.
في ولادة تحت المشنقة، ليست فقط قصة عن النجاة، بل هي دعوة لكل من يسمعها أن يتذكر قوة الإنسان في مواجهة العواصف، وأن يؤمن بأن الخير والحب، في النهاية، هما ما يمنحان الحياة معناها الحقيقي.
في عام مضطرب من سنوات العراق العاصفة، عام 1981، حيث كان الهواء مشبعاً برائحة الحذر والتوتر، وفي إحدى نقاط التفتيش العسكرية الصارمة في منطقة الخالص، وقعت أحداث قصة تبدو كأنها من نسج الخيال. فقد استوقفت السلطات العراقية المجرمة، بقبضتها الحديدية، زوجاً وزوجته الحامل، وكان الاتهام الموجه إليهما ثقيلاً كجبال الألب؛ المشاركة مع "قوات الأنصار"، تلك القوات الشيوعية التي تحدت صدام وسلطته.
اعترف الزوجان، بصوت ملؤه اليأس والاستسلام، أنهما كانا بالفعل يشاركان في الفكر الشيوعي، ولكنهما أكدا، بنبرة تحمل الأمل والرجاء، أنهما قد عادا إلى صوابهما وينويان العودة إلى بغداد ليعيشا حياتهما العائلية البسيطة، بعيداً عن غول السياسة وعبثياتها. ومع ذلك، كانت قلوب السلطات الأمنية كالصخر، لم تلين ولم تصدق قصتهما، فاتهمتهما بنقل تعليمات شفوية لقواعد الحزب الشيوعي في عمق بغداد.
أحيلا إلى محكمة الإجرامية باسم (محكمة الثورة)، تلك المحكمة التي لا تعرف سوى لغة الإجرام والقتل والحزم والعقاب، وسرعان ما أُصدر حكمهما بالإعدام شنقاً حتى الموت، حكم وقع عليه صدام بيده، كختم القدر الذي لا رجعة فيه.
وفي مواجهة هذا القدر المحتوم، كانت "ميادة"، المرأة الشيوعية التي حملت في أحشائها بذرة الحياة، وهي في شهرها الأخير من الحمل، تقف على أرض متزلزلة بين الحياة والموت. بقلب ينبض بالأم والخوف، قدمت ميادة طلباً إلى برزان التكريتي المجرم، متوسلة بكل ما تملك من قوة وأمل في الرحمة، بتأجيل تنفيذ الحكم لحين ولادتها، رغبة منها في منح طفلها فرصة لرؤية النور، فرصة للحياة التي كانت تنتظره خارج أسوار المحكمة وقضبان الزنزانة.
لكن برزان المجرم، بقلب أشبه بالصخر، نظر إلى طلبها بعين السخرية والبرود. رفض طلبها بلا تردد، معلقاً بكلمات لاذعة قاسية كالسكين، "الدولة ليست بحاجة إلى خائن جديد". كان صوته كالرعد الذي يهز الأرض، محطماً أي أمل ظنت "ميادة" أنه قد ينبت في أرض قاحلة.
بينما تسارعت دقات قلب "ميادة"، وتلاشت الألوان من حولها، شعرت بالعالم يدور في فلك اليأس. ومع ذلك، لم تستسلم. كانت كل نفس تأخذه يحمل دعاءً صامتاً، رجاءً لمعجزة، لطفلها الذي لم ير العالم بعد. كانت تعلم أن الوقت ينفد، ولكن الأمل، مهما كان ضئيلاً، ظل يتوهج في أعماقها.
وفي الساعات التي سبقت الفجر، حيث تتداخل الظلال والأضواء، كانت "ميادة" تفكر في طفلها. تخيلت وجهه، يديه الصغيرتين، والحياة التي كان يمكن أن يعيشها. كانت أحلامها له تتعارض بشدة مع الواقع القاسي الذي كان ينتظرهما. ولكن، حتى في هذه اللحظات المظلمة، كانت قوة الأمومة تمنحها الشجاعة لتواجه المصير الذي كتب لهما.
بينما كانت النجوم تتلاشى، والسماء تتلون بأولى خيوط الفجر، كانت "ميادة" تستعد لمواجهة ما كانت تعلم أنه نهايتها. لكن، في أعماق قلبها، كانت تأمل أن تكون قصتها، قصة طفلها، حقيقة أغرب من الخيال؛ حقيقة تنتصر فيها الحياة على الظلم، ويكون فيها النور في نهاية النفق.
في هذا الصباح البارد، وقفت "ميادة"، وهي تحمل في أحشائها بذرة الأمل والحياة، أمام مصيرها، متحدية بصمت قسوة العالم، متمسكة بأمل أن تترك لطفلها إرثاً من الشجاعة، إرثاً يؤكد أن حتى في أعتم الأوقات، يمكن للحب والحياة أن يجدا طريقهما.
وفي لحظة كانت كل الأماني تتلاشى كدخان، وُجهت "ميادة" بالرفض الثاني، رفض يشبه صفعة قاسية على وجه الإنسانية. "الدولة ليست بحاجة إلى خائن جديد"، كانت تلك كلمات برزان، باردة كالجليد، تقطع آخر خيوط الأمل التي كانت "ميادة" تتشبث بها. طلبها الثاني، طلب الأم التي كانت تسعى لإنقاذ نفس طاهرة لم تعرف العالم بعد، قوبل برفض أيضاً.
في هذه الأثناء، كان الدكتور العبيدي، شاهد على هذه الحكاية المؤلمة، يروي كيف أن الزوج، بروح لم تنكسر، سار إلى منصة الشنق مرفوع الرأس، خلفه "ميادة"، الزوجة الشابة الحامل، التي كانت تحمل في أحشائها حياة لم ترَ النور بعد.
وفي تلك اللحظة، حيث يبدو أن الزمن توقف، نفذ الجلاد، جاسب السماوي، عملية الشنق بالزوج. كانت المشاهد متقطعة كأنما تُروى من خلال ضباب الدموع. كان صوت الرجل الواقف على المنصة، وهو يقاوم حتى آخر لحظة، صدى يتردد في الفضاء الفارغ، كنداء أخير للعدالة في عالم أضحى فيه العدل سراباً.
الجموع الصامتة، والأعين التي كانت تراقب من بعيد، شهدت على قسوة المشهد. و"ميادة"، التي كانت تقف هناك، محطمة القلب لكن لا تزال شامخة، تنظر إلى مصيرها ومصير طفلها الذي كان لا يزال ينبض داخلها. كانت الأمل واليأس يتصارعان في قلبها، وكأنهما نور وظلام يتناوبان على روحها العليلة.
وبينما كان جاسب ينفذ حكم الشنق بالزوج، كانت هناك لحظة صمت، لحظة تأمل حيث بدا الزمان وكأنه يتوقف في احترام أخير للحياة التي كانت على وشك أن تُسلب. ولكن، حتى في وجه الموت، كانت هناك قوة، قوة في الصمود والكرامة، تلك التي تحدت ظلم الزمان وقسوته.
ومن بين الصفوف الصامتة التي تجمعت لتشهد المأساة، كانت "ميادة" تقف، ظلال الحزن تلفّ وجهها الشاحب، لكن عينيها كانتا تحتفظان ببريق شجاعة لا يمكن تفسيرها. كل نبضة في قلبها كانت تعد الثواني المتبقية لحياة رفيق دربها، الرجل الذي واجه معها عواصف الحياة وتقلباتها. وعندما تم تنفيذ الحكم، ساد صمت مطبق، صمت يثقل الأرواح ويعصر القلوب.
في تلك اللحظة، حيث ارتفعت أنفاس "ميادة" بصعوبة، تحت وطأة الألم والفقد، كانت كل ذرة في كيانها ترفض تصديق الواقع القاسي الذي فُرض عليها. ومع ذلك، وفي أعماق روحها، كانت تعلم أن عليها أن تجمع كل ما تبقى لها من قوة لمواجهة المصير نفسه، ليس من أجلها وحدها، بل من أجل الروح الصغيرة التي كانت تحملها بداخلها.
وبينما كان الجلاد يستعد لتنفيذ الحكم التالي، كانت "ميادة" ترفع رأسها نحو السماء، تبحث عن إشارة، عن معجزة قد تحدث في آخر لحظة. لكن السماء بقيت صامتة، لا تقدم إلا ضوء الشمس الباهت الذي بدأ يتسرب بين الغيوم، كما لو كان يحاول إلقاء نظرة أخيرة على المشهد الأرضي.
"ميادة"، بخطوات مرتعشة، سُحبت نحو المنصة، وكل خطوة كانت تقترب بها من النهاية كانت تعيد ترديد الأدعية والتماساتها. وفي قلبها، كانت تتوسل للقدر أن يحفظ طفلها، أن يمنحه فرصة الحياة التي كادت أن تُسلب منه قبل أن يتنفس الهواء الطلق.
وفي تلك الأثناء، ومع اقتراب لحظة التنفيذ، شعرت "ميادة" بروحها تتأرجح بين عالمين، عالم الحياة الذي حلمت به لطفلها، وعالم الظلمات الذي كانت على وشك دخوله. ولكن حتى في وجه الموت، كانت "ميادة" تحمل بداخلها شيئاً لا يمكن لأي حكم أو جلاد أن يأخذه منها - الأمل في مستقبل أفضل لطفلها، أمل يتجاوز حدود الزمان والمكان، أمل يشع كنجمة في أعمق الليالي الحالكة.
وهكذا، وقفت "ميادة" على المنصة، قلبها يخفق ليس بالخوف، بل بالحب العظيم الذي كانت تحمله لطفلها الذي لم يولد بعد. رغم القيود التي كبلت يديها، كانت روحها حرة، تحلق عالياً فوق الأسى والظلم، متمسكة بالإيمان الراسخ بأن ضوء الحياة سيشق طريقه مهما كانت العتمة شديدة.
وبينما كان الجلاد يستعد لإسدال الستار على هذا الفصل المؤلم، كانت "ميادة" تغمض عينيها للحظة، لتتذكر كل لحظة جميلة عاشتها، كل ضحكة، كل حلم، كل أمل. وفي تلك اللحظة، لم تكن وحدها؛ كان معها طفلها، ملاكها الصغير، يمنحها القوة والشجاعة.
فجأة، في لحظة سرمدية حيث بدا الزمن كأنه توقف، وُجدت "ميادة" وهي تقف على حافة الحياة والموت، وكأن العالم كله كان ينتظر نفساً واحداً. وعندما أُعطيت الإشارة لتنفيذ الحكم، كان صدى صوت الجلاد يتردد في الفضاء، لكن "ميادة" كانت في مكان آخر بفكرها وروحها، مع طفلها، تحميه بحبها اللامتناهي.
وفي تلك اللحظة المصيرية، أدركت "ميادة" الحقيقة العميقة والأبدية: أن الحب، حتى في وجه أعتى أشكال الظلم والعنف، يبقى قوة لا يمكن إخمادها، نور لا يمكن أن يُطفئ. فلقد علمت أن روح طفلها، وقصتهما معاً، ستبقى تتردد كأغنية خالدة عبر الزمن، تحكي عن الأمل الذي لا يموت، وعن الحياة التي تنتصر دائماً، بطريقة ما، على الظلام.
وبهذه الروح المحلقة، استقبلت "ميادة" النهاية، ليس كنهاية، بل كبداية جديدة لقصة ستُروى عبر الأجيال، قصة عن قوة الإنسان وإرادته في مواجهة القدر، وعن الضوء الذي يمكن أن يولد من أعمق ظلمات الحياة.
وها هو دور "ميادة" قد حان، وقدماها تخطوان نحو المنصة التي ستكون شاهدة على اللحظات الأخيرة من حياتها. كل خطوة كانت تحمل في طياتها ثقل قلب أم تحمل بين ضلوعها حياة بريئة لم تعرف العالم بعد. وعلى المنصة، بصوت ممزوج بالدموع واليأس، توسلت "ميادة" لتأخير تنفيذ الحكم، لو للحظات، علّها تمنح طفلها فرصة للنجاة، للحياة.
لكن قلوب الحاضرين كانت كالحجر، لم تلين لتوسلاتها. وفي تلك اللحظات المحفوفة باليأس، حاولت "ميادة" بكل ما أوتيت من قوة أن تحفز جسدها لبدء دورة المخاض، كأنما بإرادتها القوية يمكنها أن تحدث المعجزات. دموعها اختلطت بدعواتها واستغاثتها بالله، وهي تنادي بأسماء الأنبياء والأولياء الصالحين، وتتلو بحرارة الأدعية الإسلامية، كلها في محاولة يائسة لتخليص طفلها من مصير مظلم كان ينتظره.
لكن الجلاد، "السماوي"، لم يهتم بمعاناتها، فجر العصا التي كانت إشارة لبدء تنفيذ الحكم. وفي لحظة، اندفعت "ميادة" إلى الهوة، جسدها يتأرجح في الهواء، وفي أحشائها جنين لا يزال يتنفس، برغم شنق أمه. وعندما سقطت على الأرض، لم يكن هناك من صوت سوى صدى قلوب تتكسر وأرواح تنطلق إلى بارئها.
لكن في لحظة لا تصدق، لحظة يعجز العقل عن تفسيرها، انفرجت ساقي "ميادة" في وضع ولادة، كأنها آخر هدية تقدمها لطفلها، آخر محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وفي تلك اللحظة، اللحظة التي يمكن أن تُعتبر معجزة في وسط المأساة، اندفع الطفل إلى الخارج، نافضاً عنه غبار الموت الذي كان يلفه، ليأخذ نفسه الأول في عالم لم يكن ليرحب به لولا إرادة والدته القوية.
ربما كانت تلك إرادة القدر، أو رحمة خفية من الله، لكن "ميادة"، حتى في لحظة وفاتها، أوصلت رسالة عميقة، لكن القدر كان له رأي آخر، حيث لم تلبث "ميادة" أن اندفعت إلى الهوة تحت وطأة حكم الجلاد، جسدها يتأرجح في الفضاء، وفي داخلها جنين لا يزال ينبض بالحياة. ومع سقوطها الأخير على الأرض، بدت النهاية وكأنها قد حانت، حيث استقرت "ميادة" بلا حراك، روحها تحلق إلى السماء.
لكن في لحظة تعجز الكلمات عن وصفها، وفي معجزة يصعب تفسيرها، انفرجت ساقي "ميادة" في وضع الولادة، تلك اللحظة التي تحمل في طياتها إعلاناً عن بداية جديدة. ومن بين ظلمات الموت واليأس، اندفع طفلها إلى الحياة، نفس جديد يبزغ في أعقاب لحظة مأساوية، يشهد على قوة الحياة والأمل الذي لا يمكن إقصاؤه. كان هذا الطفل، الذي وُلد في ظروف لا يمكن تخيلها، رمزاً للنور الذي يتسلل من بين ثنايا الظلام الأعمق، تذكيراً حياً بأن الحياة، بكل ما فيها من معجزات، تستمر بشكل ما، حتى في أحلك الأوقات.
وفي اللحظة التي بدا فيها كل شيء قد فُقد، في اللحظة التي استسلم فيها الجميع لفكرة أن النهاية قد حانت، هناك، في تلك الزاوية المظلمة من العالم، وُلدت حياة جديدة تحدياً لكل الصعاب، شهادة على الإرادة والأمل الذي يتجاوز محنة "ميادة" الشخصية ليصبح إلهاماً لكل من يسمع قصتها.
حينها، وفي صمت الحضور الذين شهدوا هذا المشهد المؤثر، كان هناك شعور عميق بأن شيئاً استثنائياً قد حدث، لحظة تجاوزت فيها الروح البشرية حدود المعقول والمتوقع. وبينما كان الطفل يبكي، معلناً عن وجوده في هذا العالم، كان هناك شعور بالدهشة، بالحزن، وبالأمل، كلها مختلطة في قلوب الحاضرين.
ربما لم يكن أحد يعرف ما يخبئه المستقبل لهذا الطفل، الذي وُلد في ظل ظروف استثنائية، لكن واحدة كانت مؤكدة: أن قصته وقصة والدته ستظل خالدة، رسالة عن قوة الإرادة والأمل اللذين يمكنهما تحدي القدر نفسه.
كانت "ميادة"، حتى في موتها، قد منحت العالم شهادة على قدرة الحب على خلق الحياة من قلب الموت، على قدرة الروح البشرية على الصمود والتحدي، وعلى أن الضوء يمكن أن يشق طريقه، مهما كانت الظروف مظلمة.
في تلك اللحظة المحفورة في الذاكرة، حيث الحياة والموت تلاقيا على خشبة واحدة، وُلد الطفل إلى هذا العالم من جسد أمه الذي فارق الحياة، وسط صمت مطبق يخيم على المكان، متقطعاً فقط بصوت بكاء الوليد الجديد. وفي تلك الأثناء، حمل الدكتور العبيدي رواية تُظهر تضارب المشاعر والأفكار بين الحاضرين.
"جاسب"، الجلاد الذي نفذ الحكم، اقترح بقسوة ترك الطفل يموت إلى جانب والدته المشنوقة، وقوبل اقتراحه بالتأييد من رجل الدين الذي جاء لتلقين الأم الشهادتين، معتبرين أن مصير الطفل لا يختلف عن مصير أمه. لكن، في مواجهة هذه القسوة، كان هناك صوت الرحمة والعدالة، صوت الطبيب الذي رفض فكرة إنهاء حياة الطفل، مؤكداً أن العقاب كان موجهاً للأم، ولا ينبغي أن يتحمل الطفل البريء وزر ذلك.
وبعد نقاش حاد ومشحون بالعواطف، تم التوصل إلى قرار بتسليم الطفل لطرف ثالث، كحل وسط يجنب الطفل مصيراً قاتماً ويحفظ ذرة من الإنسانية في هذا المشهد المروع. اتفق الجميع على تسليم الطفل إلى "رضية"، عاملة التنظيف في غرفة الشنق، التي برزت فجأة كملاك رحمة في هذا الموقف الأليم.
"رضية"، التي كانت شاهدة على هذا المشهد المؤلم من بدايته، لم تتردد في قبول الطفل، رغم الظروف المعقدة والمؤلمة التي رافقت ولادته. كانت تعلم جيداً أن ما قُدر لها أن تكون جزءاً من هذه القصة، قصة الحياة التي تنتصر على اليأس والموت.
وهكذا، بينما كان العالم من حولهم يستمر في دورانه المعتاد، وُجدت لحظة فارقة، لحظة حيث الرحمة والإنسانية تتجلى في أبهى صورها. "رضية"، بقلبها الكبير وإيمانها بقيمة الحياة، أصبحت الأم الجديدة لهذا الطفل الذي وُلد في ظروف لا يمكن تخيلها، مؤكدة على أن النور يمكن أن يولد من عمق الظلام، وأن الحب والرحمة يمكنهما أن يخلقا معجزات حتى في أقسى اللحظات. رضية، التي كانت شاهدة على الأحداث منذ بدايتها، لم تكن تتخيل أن يأتي يوم وتصبح هي الملاذ الآمن لروح جديدة، لم تكن تتخيل أن دورها في هذا اليوم سيتجاوز كونها مجرد عاملة تنظيف في غرفة الإعدام، لتصبح الأم لطفلٍ وُلد من بين ثنايا الموت.
مع كل خطوة تتخذها رضية نحو رعاية هذا الطفل، كانت تُدرك عمق المسؤولية التي تقع على عاتقها. كانت تعلم أن الطريق لن يكون سهلاً، لكنها كانت مستعدة لتوفير كل الحب والرعاية التي يحتاجها هذا الطفل لينمو بصحة وسلام. ومع هذا القرار، بدأت رضية تشعر بنوع من السلام الداخلي، وكأنها وجدت الغرض الحقيقي لوجودها، وكأن كل ما مرت به في الحياة كان يُعدها لهذه اللحظة، لهذا الدور.
في أحضان رضية، وجد الطفل الأمان والدفء اللذين كانا بعيدين كل البعد عن لحظات ولادته الأولى. ومع كل يوم يمر، بدأت الروابط بينهما تزداد قوة، تلك الروابط التي لا تعترف بالفوارق البيولوجية أو الظروف المادية، وإنما تنبع من عمق الروح وصدق المشاعر.
كانت قصة ولادة هذا الطفل والنجاة المعجزية له من بين أحضان الموت قصة تُروى بين أفراد المجتمع، قصة أصبحت بمثابة شعاع نور في زمن الظلام، مثالاً حياً على أن الحياة، بكل تعقيداتها ومفاجآتها، لا تزال قادرة على منحنا الأمل والإلهام. ومع كل شروق شمس، كانت رضية تنظر إلى هذا الطفل بعينين ملؤهما الحب والامتنان، متأملة في كيف أن القدر أوكل إليها مهمة حماية ورعاية روح هذا الطفل الذي وُلد في لحظة كان العالم من حوله يبدو على استعداد للتخلي عنه.
وهكذا، في وسط عالم مليء بالتحديات والصراعات، أصبحت قصة هذا الطفل و"رضية" قصة أمل تُذكرنا بأن الخير والحب لا يزالان يمكنهما صنع المعجزات، وأن الإنسانية في أبهى صورها تظهر عندما نختار العطاء والتعاطف على القسوة واللامبالاة. كانت حياة الطفل و"رضية" تشكلان نسيجاً جديداً مليئاً بالألوان الزاهية في عالم يبدو أحياناً أبيض وأسود.
مع مرور الوقت، وبينما كان الطفل ينمو تحت رعاية "رضية"، بدأت قصتهما تنتشر كرمز للأمل والتغيير. كان الناس يأتون من كل حدب وصوب ليسمعوا عن الطفل الذي خرج إلى الحياة من بين ظلال الموت، وعن المرأة التي اختارت أن تكون أماً له بالرغم من كل الصعوبات. ومع كل قصة تُروى، كانت روح "ميادة" تحلق حولهما، كحارس وملهم، تذكيراً دائماً بقوة الإرادة والحب.
"رضية"، التي كانت مرة عاملة تنظيف بسيطة، أصبحت الآن معلمة وأماً للجميع، شخصية تُحتذى بها في العطاء والتضحية. والطفل، الذي لم يكن ليحظى بفرصة في الحياة لولا تلك اللحظة المعجزة، نما ليصبح شخصاً يعي القيمة الحقيقية للحياة، مدركاً دوماً أن قصته ليست مجرد قصة نجاة، بل هي رسالة عن الإمكانيات اللامحدودة التي يمكن أن تولد من أصعب الظروف.
وفي كل يوم، كانت "رضية" تنظر إلى هذا الطفل وترى فيه ليس فقط الطفل الذي اختارت أن تحبه كابن لها، بل ترى أيضاً الأمل لمستقبل أفضل، ترى النور الذي يمكن أن يضيء الطريق حتى في أعتم الأوقات. وبينما كان الطفل يكبر، كانت القصص عن شجاعة "ميادة" وعطف "رضية" ومعجزة ولادته تصبح جزءاً لا يتجزأ من هويته، محركاً له نحو مستقبل يعمل فيه ليكون مصدر إلهام للآخرين، تماماً كما كانت قصته مصدر إلهام له.
في لحظة تحولت فيها الأحلام إلى حقيقة، وجدت "رضية" نفسها أمام معضلة الحياة والموت، وهي تحمل بين ذراعيها طفلاً صغيراً، كان بمثابة هدية غير متوقعة من القدر. "زغير"، كما أطلق عليه جاسب في البداية، لم يكن له أي معنى لـ"رضية"، الأم بالروح لا بالدم. ففي قلبها، كان هذا الطفل "وليد"، وليد الأمل والنور في حياتها التي طالما ظلت خالية من صدى ضحكات الطفولة بسبب عدم قدرتها على الإنجاب.
وبينما كانت تغسل آثار الموقف الأليم الذي شهدته غرفة الشنق، تمسك "رضية" بـ"وليد" بكل حنان وعطف، مغسلةً إياه بماء دافئ في الحمام المخصص للمساجين، ولفته بقطعة قماش كانت تعود لـ"ميادة"، قطعة قماش تحمل روح الأم التي لم تحظ بفرصة حضن طفلها.
وفي خطوات متسارعة، وقلب يخفق بالحب والأمل، هرولت "رضية" إلى منزلها في منطقة الحصوة، محملة بـ"وليد"، ذلك الضيف الجديد الذي كان سيُحدث تغييراً جذرياً في حياتها وحياة زوجها. فاجأته بالطفل، وكانت في عينيها نظرة تحمل كل معاني الفرح والتحدي.
"رضية"، التي أدركت مسؤوليتها تجاه "وليد"، كانت تعلم أن أولى خطواتها في رحلتهما معاً كانت تغيير اسمه إلى "وليد"، اسم يعني الولادة الجديدة، وتسجيله في دائرة النفوس باسم زوجها واسمها، ليصبح جزءاً لا يتجزأ من عائلتها، لتُعطيه الهوية والانتماء الذي يستحق.
وفي تلك اللحظات، بينما كانت "رضية" تُحيط "وليد" بأذرعها، شعرت بالقوة تسري في عروقها، قوة الحب الذي لا يعرف الحدود والتضحية التي لا تقدر بثمن. كانت تعلم أن الطريق لن يكون سهلاً، لكنها كانت مستعدة لمواجهة كل التحديات من أجل "وليد". وفي قلبها، كانت تشعر بالامتنان لهذه الفرصة الثمينة التي منحها إياها القدر، فرصة أن تكون أماً، فرصة لتعلم معاني الحب الحقيقي من خلال عيني طفل بريء.
تلك الليلة، بينما كان "وليد" يغط في نوم عميق بين أحضان "رضية"، كانت تفكر في المستقبل، في كيفية توفير حياة كريمة له، حياة تليق بالمعجزة التي نجا منها. كانت تعلم أن الطريق سيكون محفوفاً بالتحديات، لكنها كانت مستعدة لمواجهتها جميعاً بشجاعة وإصرار.
ومع تسجيل "وليد" باسمها واسم زوجها، لم يعد مجرد طفل أُنقذ من الموت، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من عائلة تحبه وتعتني به. كانت "رضية" تحلم باليوم الذي ستراه فيه يخطو خطواته الأولى، ينطق كلماته الأولى، ويكبر ليصبح رجلاً يفخر به الجميع.
كل ليلة، قبل أن تغفو، كانت "رضية" تنظر إلى "وليد" بعيون مليئة بالحب والأمل، تدعو الله أن يحميه ويقود خطاه في هذه الحياة. كان "وليد" بالنسبة لها ليس فقط طفلاً نجا من موت محقق، بل كان رمزاً للحياة التي تتجدد، للأمل الذي يولد من رحم اليأس، للمستقبل الذي يمكن أن يكون مشرقاً بالرغم من كل الظروف.
بمرور الوقت، أصبح "وليد" ليس فقط مصدر فرح لـ"رضية" وزوجها، بل أيضاً لكل من عرف قصته. كان ينمو ويتطور كل يوم، وكل تقدم جديد كان يُعتبر انتصاراً للحياة والحب. وفي كل ابتسامة منه، كانت "رضية" ترى الدليل على أن الخير لا يزال موجوداً في هذا العالم، وأن اللطف والعطاء يمكنهما تغيير مصائر الناس.
وهكذا، في وسط عالم مليء بالتحديات والظلم، أصبحت قصة "رضية" و"وليد" قصة إلهام للجميع، قصة تذكرنا بأن هناك دائماً مكان للأمل والنور، مهما كان الظلام شديداً.
مع تقلبات الزمن وتغير الأحوال، شهد العراق في عام 2003 لحظة تاريخية بسقوط النظام البعثي المجرم الذي طالما ظلل البلاد بظله الثقيل. ومن بين غبار التاريخ الذي بدأ يستقر، جاءت لحظة مصيرية في حياة "وليد"، الشاب الذي نما وترعرع في أحضان "رضية"، تلك الأم البديلة التي قدمت له كل معاني الحب والحنان.
شقيق زوج "ميادة"، الذي قدم من ألمانيا إلى الحصوة، حمل معه الأمل في إعادة "وليد" معه لتوفير حياة أفضل له في ألمانيا. ومع أن "رضية" لم تعترض على رغبته، إلا أنها كانت تعلم في قرارة نفسها أن "وليد" ليس مجرد طفل تربى في حضنها، بل جزء لا يتجزأ من روحها ووجدانها.
وعندما حان الوقت ليقرر "وليد" مصيره، اختار بكل حزم البقاء مع "رضية"، التي كانت له بمثابة العالم بأسره. في تلك اللحظة، لم يكن يختار فقط مكان العيش، بل كان يختار الارتباط الروحي والعاطفي الذي جمعه بـ"رضية"، تلك السيدة التي وهبته الحياة مرتين: مرة عندما أنقذته من الموت، ومرة أخرى عندما علمته معاني الحب والعطاء.
في العام التالي، قامت "رضية" بخطوة حاسمة في مسيرة "وليد"، حيث وفرت له فرصة العمل في دائرة الإصلاح العراقية من خلال أحد معارفها، فتحول "وليد" إلى رجل القانون، مسؤولاً عن تنفيذ الأحكام بالمحكوم عليهم. وفي سخرية القدر، وجد "وليد" نفسه يوماً مسؤولاً عن ساق "برزان المجرم" إلى منصة الإعدام، "برزان" الذي كان يوماً جزءاً من النظام الذي حكم بالموت على والدته "ميادة".
في تلك اللحظة، وبينما كان "وليد" يساق بيديه الاثنتين إلى منصة الإعدام، كانت هناك لحظة عميقة من التأمل في دوامة الزمن وتقلباته. لم يكن "وليد" يشعر بالانتقام، بل بثقل المسؤولية وعمق الدرس الذي تعلمه من حياته: أن العدالة والحق يجب أن يسودا في النهاية، بعيداً عن دوامة الكراهية والانتقام التي لا تنتهي. في قلبه، كان يعلم أن مسار حياته، الذي بدأ بأعجوبة نجاة واستمر بتربية "رضية" الحانية، قد أعده لهذه اللحظة، ليكون أداة للعدالة، لا للثأر.
ومع تنفيذ الحكم، وجد "وليد" نفسه يتأمل في معنى الحياة والمصير. كيف يمكن للحياة أن تأخذ منحنيات غير متوقعة، وكيف يمكن للألم والمعاناة أن يُولد منهما نور يضيء ظلمات اليأس. كان "وليد" يرى في كل خطوة خطاها في هذا العالم أثر "رضية"، التي علمته أن الحب والرحمة هما السبيل الوحيد لتحقيق السلام الداخلي والانسجام مع النفس.
في تلك اللحظة الحاسمة، حيث تداخلت خيوط القدر بطرق عجيبة لا يمكن تفسيرها بمنطق البشر، وجد "وليد" نفسه ينفذ حكم الإعدام في "برزان"، رجل النظام السابق، في نفس المكان الذي شهد ولادته المعجزة من رحم أمه المشنوقة. كانت هذه اللحظة تحمل في طياتها معاني أعمق من مجرد صدفة تاريخية، كانت تُعلن بصوت عالٍ عن عدالة السماء التي لا تنام، وكيف أن ميزان الحق يظل دائماً يميل نحو إعادة الحقوق إلى أصحابها، مهما طال الزمن.
وفي اللحظة التي نُفذ فيها الحكم، حدث ما لم يكن متوقعاً، حيث انفصل رأس "برزان" عن جسده، وكأن القدر يضع بصمته الأخيرة على هذه القصة، تذكيراً قوياً بأن لكل ظالم نهاية، وأن الظلم مهما طغى وتجبر، فإن نهايته محتومة أمام عدالة السماء.
تلك اللحظة كانت شاهدة على حقيقة أبدية، حقيقة صاغها الإمام علي بن أبي طالب بكلماته الخالدة: "يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم". وها هو "وليد"، طفل "ميادة"، يقف شاهداً على تجسيد هذه الحقيقة، في مشهد يختزل قصة كفاح ونضال ومعاناة، لكنه ينتهي بإعلان قوي عن انتصار الحق والعدالة.
وبينما كانت الأحداث تتكشف بهذه الطريقة العجيبة، كان في قلب "وليد" شعور مختلط بين الحزن على ما آلت إليه الأمور، والرضا عن نهاية قصة أظهرت أن لا أحد يمكنه الفرار من محكمة الله، التي فيها يتجلى العدل الأسمى. ومع هذا الشعور، كانت "رضية"، الأم الروحية لـ"وليد"، تقف بجانبه، مؤكدة له أن الحياة، بكل تعقيداتها، تبقى دائماً معلماً يقدم دروساً في الحب والعطاء والعدالة.
وهكذا، تظل قصة "وليد"، من ولادته المعجزة إلى لحظة تنفيذ العدالة بيديه، مثالاً حياً على كيفية تحقق العدالة الإلهية في أكثر اللحظات غير المتوقعة، وكيف أن الحياة تُعلمنا دائماً أن خيوط القدر متشابكة بطرق لا يمكن للعقل البشري فهمها بالكامل. "وليد"، الذي نجا من موت محتم ونشأ في ظروف استثنائية، وجد نفسه في قلب العدالة، ينفذ حكماً في نفس المكان الذي شهد بداية قصته المعقدة والملهمة.
هذا التداخل العميق بين بداياته ونهايات أخرى في حياته، جعل "وليد" يتأمل في معاني الحياة ودور كل شخص فيها. كان يدرك أنه، على الرغم من الظلم الذي يعتري العالم أحياناً، هناك دائماً مساحة للأمل والتغيير، وأن الضوء يمكن أن يظهر في نهاية النفق، مهما كان طويلاً ومظلماً.
وفي لحظات الصمت التي تلت تنفيذ الحكم، وجد "وليد" نفسه يشعر بعبء ثقيل قد خُفف عن كاهله. لم يكن ذلك بسبب الانتقام أو الشعور بالرضا عن الأذى الذي لحق بالآخرين، بل بسبب إدراكه أن دورة الحياة والعدالة قد اكتملت بطريقة ما. "رضية"، التي كانت دائماً بجانبه، مدت يدها إليه، مذكّرة إياه أن الحب والرحمة هما ما يجب أن يحكما قلوب الناس، حتى في أشد اللحظات قتامة.
في الأيام والسنوات التالية، أصبحت قصة "وليد" و"رضية"، والأحداث التي أحاطت بحياتهما، بمثابة قصة تُروى للأجيال القادمة. قصة عن النجاة والأمل والعدالة التي قد تتأخر، لكنها لا تغيب. كانت حياتهما تعبيراً عن الإيمان العميق بأنه، مهما كانت التحديات والظروف، يمكن للإنسان أن يجد طريقه نحو النور، وأن يكون مصدر إلهام للآخرين ليعيشوا بحب، وعدل، وكرامة.
وهكذا، أصبحت قصة "وليد"، الطفل الذي وُلد من رحم الموت، و"رضية"، الأم التي اختارته من بين كل الأطفال لتعطيه حباً بلا حدود، بمثابة رمز لقوة الإرادة البشرية والقدرة على التحول والتجاوز، دليلاً على أنه، حتى في أعقد الظروف، يمكن للخير والأمل أن يجدا طريقهما إلى القلوب الجاهزة لاستقبالهما. تعلم "وليد" من "رضية" دروساً لا تُقدر بثمن عن العطاء والصفح والقوة الكامنة في الروح الإنسانية عندما تُواجه بالتحديات. وأدرك أن كل خطوة في حياته، بدءاً من لحظة ولادته المعجزة وحتى تلك اللحظة المحورية في المحكمة، كانت تحمل معنى وغرضاً أكبر مما كان يمكن أن يتصور.
في كل يوم، كان "وليد" ينظر حوله ويرى عالماً مليئاً بالتناقضات، عالماً يمكن أن يكون قاسياً ومظلماً، ولكنه أيضاً عالم يمكن أن يُظهر أعظم معاني الجمال والحب والتسامح. كان يعلم أن دوره لم ينته عند تلك النقطة، بل كان لديه مسؤولية أكبر تجاه نفسه وتجاه المجتمع الذي كان جزءاً منه.
"رضية"، من جانبها، استمرت في تقديم الدعم والحب والإلهام ليس فقط لـ"وليد" بل لكل من حولها. أصبحت قصتها وقصة "وليد" مثالاً حياً على الإيمان بالخير والقدرة على إحداث فارق حقيقي في العالم، حتى من أبسط الأفعال.
مع مرور الزمن، وبينما كان "وليد" يتابع مسيرته في الحياة، كان دائماً يحمل في قلبه الدروس التي تعلمها من "رضية" ومن تجربته الخاصة في الحياة. أدرك أن الظلم والألم الذي يعاني منه الناس في العالم ليس سوى جزء من قصة أكبر، قصة تتحدث عن الأمل والتغلب والعدالة التي تسود في النهاية.
وفي كل لحظة من لحظات حياته، كان "وليد" يعيش بفلسفة أن الحياة، بكل تعقيداتها وتحدياتها، هي هدية ثمينة يجب أن تُعاش بكل معاني الحب والتسامح والشجاعة. وكان يعلم أنه، بغض النظر عن مدى قتامة الظروف، دائماً هناك فجر جديد ينتظر أن يُشرق، يحمل معه فرصاً جديدة للنمو والتجاوز وإعادة كتابة قصص حياتنا بأحرف من الأمل والنور.