ثمن الصدق في زمن الزيف
بقلم: د. عدنان بوزان
كم هو غريبٌ هذا العالم الذي نعيش فيه، حيث تتبدل المعايير وتُغتال القيم في ظلام العقول المنجرفة نحو الزيف والتظاهر. أن تكون صادقاً اليوم هو جرمٌ لا يُغتفر، وكأن الحقيقة قد أصبحت حملاً ثقيلاً لا يود أحد أن يحمله أو يتعامل معه. الحقيقة هي ذاك السيف الذي يقطع أوتار الأوهام المعلقة في فضاء النفوس الهشة، فيصبح حاملها منبوذاً، غريباً، موصوماً بالكراهية. الناس لا يريدون مرآة تعكس وجوههم كما هي، بل يرغبون في مرآة تكذب وتجمّل وتعطيهم صورةً زائفةً تعزز الأنا المتضخمة وتغذي الهروب من مواجهة الذات.
الصراحة، ذلك الفضول الفطري الذي يدفعنا لرؤية الأمور بوضوح دون تزييف، هي الآن الخطيئة الكبرى. في زمن تكتظ فيه المجاملات الكاذبة والتزيينات المزيفة، يصبح الصادق متمرداً على قواعد اللعبة. فقد تآكلت القيم في لعبة المصالح والمجاملات الاجتماعية التي تجعل من الكذب وسيلة للنجاة، في حين يلقى الصدق بطبيعة الحال حتفه في زاوية مظلمة. من يتحدث بصدق يجرح، ومن يكشف العيوب يعادي؛ فالحقيقة في هذا الزمن أصبحت الخنجر الذي يخيف أكثر من الجرح نفسه.
أما من تجرأ على قول الحق في وجه الخوف، فهو يختار طريق العزلة الاجتماعية. الحق، في هذا السياق، ليس مجرد كلمة بل موقف جريء يستفز الجماعة التي اعتادت على السير في طريق الأمان الكاذب. تُصبح في نظرهم مستفزاً أو متكبراً، لا لأنك اخترت الحقيقة، بل لأن الحقيقة نفسها تحمل قوة تهدد أوهامهم ومصالحهم. كلمة الحق هي البرق الذي يكشف سوءات مجتمع لا يريد أن يُضيء ظلامه.
وأما الشهرة في عالم اليوم، فهي السبيل الأكثر انحطاطاً الذي يمكن للمرء أن يسلكه. الانحراف أصبح اليوم بضاعةً رائجة، وقاعدة ذهبية في معادلة الشهرة. لا يهم مدى انحطاط الفكرة أو انعدام القيم، المهم أن تكون مختلفاً، حتى لو كان ذلك في أقصى حالات السطحية والفساد. الشهرة لا تلاحق النبلاء ولا ترفع المبدعين أصحاب الحق، بل تلاحق المنحرفين عن مسار العقل والقيم.
العالم اليوم يتعطش للأغرب، يتغذى على الشذوذ عن كل ما هو أصيل وجميل. وكأن الانحراف عن المألوف هو تذكرة العبور نحو النجومية، تلك التي تحتفي باللاشيء، بالفراغ الروحي، وبالتحلل من كل ما يعطي للإنسان معناه الحقيقي. نحن في زمن تتبدل فيه المفاهيم، فينقلب الحق إلى باطل والباطل إلى حق، وتتبعثر القيم لتصبح الشهرة سلعة بلا هوية، وتُسحق المبادئ تحت أقدام المظاهر والتفاهة.
هكذا نجد أنفسنا في صراعٍ مستمر بين حقائقنا الداخلية وبين زيف العالم الخارجي. وبينما يسقط البعض في فخ هذا العالم المقلوب، يبقى البعض الآخر صامداً، متمسكاً بالحق رغم الكراهية، ومؤمناً بالصدق رغم الخسارة. ففي النهاية، يبقى السؤال: هل تفضل أن تكون محبوباً لأكاذيبك أم مكروهاً لحقيقتك؟